الحمد لله القائل: {﴿فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾([1])،
قال النووي: قال الليث، وأبو عبيدة، والكسائي، وجماهير أهل اللغة: الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى. اهـ. قال ابن عطية: وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله فهو
طاغوت. وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه، وأما من لا
يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام، ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتا في حق
العبدة، وذلك مجاز، إذ هي بسبب الطاغوت الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان. اهـ.
لا يخفى على عاقل أن
الطغيان ظاهرة متفشية في البلدان العربية على وجه الخصوص، وهذه الظاهرة لا تنشأ في
فراغ ولا من فراغ، بل هو نتاج طبيعي لبيئة حاضنة، ومجتمع يقبل الذل والاستبداد بل
ويباركه أحيانًا. ولعل من أخطر العوامل التي تؤدي إلى نشوء ظاهرة تكوين الطغاة هو
تمجيد الحكّام والعلماء والمبالغة في مدحهم، حتى يصبحوا في نظر الناس فوق النقد
والمساءلة، بل وربما فوق مستوى البشر. ولا يخفى على أبناء الشعوب العربية تحديداً
كيف كانت الناس تُمجد حكامنا حتى ظن الواحد من أولئك الحكام أن لن يقدر عليه أحد،
وإذا باللذين يمجدونهم ينقلبون عليهم، فمنهم مَن سُحِل ومنهم من قُتِل، ومنهم من
فرَّ هارباً ليعيش لاجئاً في دول أخرى ذليل كسير، وهو يتذوق حرارة الألم، مرارة
السقم، كيف لا وهو يرى كيف يُشتم ليل نهار على مواقع التواصل الاجتماعي وأطفاله
يرون ويسمعون.
جاء عن أنسٍ قال:
"ما كان شخصٌ
أحبّ إليهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من
كراهيته لذلك"([2]).
يقول صاحب تحفة الاحوذي: "أَي لقيامهم تواضعًا لربّه، ومخالفةً لعادة
المتكبّرين والمتجبّرين، بل اختار الثّبات على عادة العرب في ترك التّكلّف في
قيامهم وجلوسهم وأكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم وسائر أفعالهم وأخلاقهم"([3]).
كذلك كان قد نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن الإطراء الزائد، فقال: "لا تُطروني كما
أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله"([4]).
وفي هذا الحديث تحذير واضح من المبالغة في مدح الأشخاص، لما يترتب عليه من أثر
خطيرة على الأفراد والمجتمعات، قال صاحب عمدة القاري في شرح هذا الحديث:
"قوله: [لا تُطروني] بضم
التاء، من الإطراء وهو المديح بالباطل، تقول أطريت فلانا مدحته فأفرطت في مدحه،
وقيل: الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه"([5])
.
كيف نصنع
الطغاة؟
صناعة الطغاة تكون
بأمور، منها مقصودة عمداً، ومنها عفوية جهلاً، وكلا الأمرين خطير ومهلك، ولابد من
تشخيص كل منهما جيداً، حتى يعلم القريب والبعيد والمتعالم والعامي كيفية صناعة
الطاغوت وكيفية الابتعاد والتحذير منه. فمن أهم ما يدعوا لصناعة الطاغوت التالي:
-المدح المبالغ فيه والتقديس: فعندما يعتاد
الناس على التغاضي عن الأخطاء، والتبرير الغير منضبط لها، بل وتحويلها إلى
إنجازات، فإن ذلك يكرّس ثقافة الطغيان. إذ يصبح الحاكم مقتنعًا بأنه فوق المُساءلة،
فيتمادى في استبداده.
- السكوت عن الظلم: حين
يسكت الناس عن الظلم ويبررون أفعال الطغاة، فإنهم يعطون لهم الشرعية بالاستمرار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم، فقد
تُوُدِّع منهم"([6]).
- الخوف والاستسلام: الطغاة يستمدون قوتهم من ضعف الشعوب وخضوعها، فلو وُجدت إرادة صلبة
لوقف الطغيان عند حدّه، ولَعلِم أنه مكلَّف لا مشرَّف حين جعله الناس يدير أمورهم.
وهناك أسباب وأمور أخرى تجاهلنا ذكرها حتى لا يطول المقام.
عواقب
صناعة الطغاة
إن صناعة الطغاة أمر
مأساوي، فهو يعود بالويل والثبور للبلاد والعباد، وينشر ثقافة الذلِّ والخنوع
والاستعباد، ويترتب عليه أمور كثيرة منها:
-استبداد بلا حدود يؤدي إلى دمار المجتمعات.
-تحول الحكم من شراكة بين الحاكم والمحكوم إلى سلطة مطلقة.
-غياب العدالة وانتشار الفساد.
كيف نكسر
دائرة الطغيان؟
لكسر ظاهرة تفشي
الطغيان بين الحكام وبعض العلماء يلزم توعية الناس لبعض الأمور الهامة منها:
-ترسيخ ثقافة النقد البنّاء.
-توعية المجتمعات بخطورة التقديس الأعمى.
-استعادة الدور الحقيقي للرقابة الشعبية تحت ضوء العدل الإسلامي.
-ملاحظة
أن من أطاع الله ورسوله وجبت طاعته، ومن خرج عن سبيلهما فلا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق.
إن الحاكم والعالم
بشر يصيب ويخطئ، وليس من مصلحته ولا من مصلحة الأمة أن يتحول إلى رمز مقدس.
وعلينا أن نتذكر
دائمًا أن التملق والمدح الزائد هما الطريق الأول لصناعة الطغاة، وأن مسؤولية
إصلاح الحكم لا تقع على الحاكم وحده، بل على المجتمع بأسره.
اللهم أصلح حالنا
وحال من يتولى أمرنا وخذ بأيدهم للقيام بأمرك للعدل والانصاف بين عبادك يا كريم يا
جواد.
وكتبه
يوسف طه السعيد
إرسال تعليق