الاستغفال وقلب الحقائق عبر التاريخ
قراءة في قصة موسى وفرعون
تقديم
إن تغيير
وقلب الحقائق قضية قديمة ولم يخلوا منها عصر من العصور، فلطالما استخدم الطغاة
والمجرمون أساليب الاستغفال والتضليل لقلب الحقائق وتزييف الوقائع، بهدف التلاعب
بالرأي العام وتبرير جرائمهم، ولعلنا نرى هذا الأسلوب بوضوح في قصة النبي موسى
عليه السلام مع فرعون، حيث استخدم الأخير الدعاية المضللة ليحرف الحقيقة ويجعل
موسى مذنبًا في نظر الناس، رغم أن فرعون نفسه كان سفّاكًا للدماء وظالمًا
للمستضعفين هذه الظاهرة ليست جديدة كما أسلفنا، بل تمتد عبر التاريخ، حيث استخدمت
الأنظمة الظالمة الإعلام والتزييف لطمس الحقائق وتشويه سمعة المصلحين.
قتل موسى للرجل خطأً مقابل مذابح فرعون
ذكر
القرآن الكريم قصة قتل موسى عليه السلام لرجلٍ من الأقباط عن غير قصد، حيث قال
تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ
إِنَّهُۥ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}([1])
كان هذا الحادث ناتجًا عن الدفاع عن أحد المستضعفين من بني إسرائيل ولم يكن قتلًا
عمدًا.
في
المقابل نجد أن فرعون كان يقتل آلاف الأطفال الأبرياء، كما أخبرنا الله تعالى عن
ذلك في قوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِۦ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُۥ كَانَ
مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ}([2])
ومع ذلك، عندما واجه موسى فرعون برسالة التوحيد، لم يتحدث فرعون عن جرائمه، بل
ركّز على فعل موسى الوحيد الذي كان خطأً غير مقصود، وقال له ساخرًا مستهتراً: {وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ ٱلَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ}([3]).
استراتيجية قلب الحقائق والتضليل الإعلامي
يُعد هذا
الأسلوب من أقدم الحيل التي يستخدمها الطغاة، وذلك التركيز على خطأ واحد أو موقف
معين لشخصية صالحة، وتجاهل الجرائم الكبرى التي ارتكبوها هم أنفسهم. ويمكن ملاحظة
هذه الظاهرة في التاريخ السياسي، حيث تستغل الأنظمة الفاسدة وسائل الإعلام لتشويه
سمعة المعارضين، معتمدة على التلاعب بالمشاعر وتكرار الأكاذيب حتى تُصدّق. فكم من
أحداث تاريخية تغيرت حقائقها بعد أن أُعيدت صياغتها، وكم من شخصية صالحة تم تشويه
سيرتها لأسباب مختلفة، وكم تم التلاعب بمشاعر الناس من خلال نشر معلومات أو مقاطع
مضللة على أنها حديثة وهي قديمة، وكم أحداث قام بها أشخاص معينون نسبها غيرهم
لأنفسهم، وهلم جراً من هذا الاحداث التي غيرت الحقائق وزيفتها، ولا يخفى كيف ضلل
الاعلام بطولات القائد عمر المختار الذي قام بواجبه الشرعي والعرفي والطبيعي
البديهي في الدفاع عن دينه وأرضه وعرضه، وهذا الحق كفلته جميع الديانات وحتى
القوانين الوضعية. ومن الأمثلة المعاصرة التي رأيناها ونحن أحياء ما تفعله الفصائل
الشيعية الولائية وهي تنسب عمليات المقاومة السنية لها بعد حذف الشعارات من مقاطع
الفيديو والتلاعب بها في المونتاج. والغريب أن هذه الاحداث نراها بأعيننا ثم
يحرفوها عن حقيقتها فماذا فعلوا بالذي لم نعرفه ونعلمه؟!!!
أمثلة عبر التاريخ
لا يخفى
على مطلع ما فعلته محاكم التفتيش في أوروبا، حيث كانت تُحرّف الحقائق لتُظهر
العلماء والمصلحين ككفرة ومهرطقين، بينما كانت الكنيسة ترتكب المجازر بحق
المخالفين لها، ومعارض أساليب التعذيب وأدواتها التي كانت تُمارس بحق المخالفين آن
ذاك شاهدة في المعارض القائمة في إسبانيا وغيرها.
وكذلك حملات
احتلال البلدان والتي غالبًا ما صُوّرت على أنها [تحضير وتحرير للشعوب]، بينما
كانت في الواقع تهدف إلى استنزاف الموارد واضطهاد السكان وتذليلهم، مستغلين الإعلام
الحديث وأدواته، والذي لا يزال مستمراً و مُستخدماً لقلب الحقائق، حيث يتم تبرير
الحروب والاحتلالات تحت شعارات زائفة مثل نشر الديمقراطية أو محاربة الإرهاب، أو
امتلاك أسلحة محرمة دولياً كما صار في العراق حيث قُتل أكثر من مليوني عراقي عوضاً
عن هدم دولة كانت قائمة بمؤسسات تصنيعية وتعليمية بحجة وجود أسلحة دمار شامل، وبعد
أن نفضوا البلاد رأساً على عقب لم يجدوا من هذه الأسلحة شيء، حتى اضطرهم هذا الامر
إلى أن يصرح كبار المسؤولين ممن اتخذوا قرار الحرب إلى الاعتذار عن قرار الحرب
والذي قام على معلومات زائفة، ثم جلبوا لهم مرتزقة طائفيون جمعوهم من مزابل الدول
ليقوموا بإتمام ما خلفه المحتل من تفرق طائفي، وظلم وسجون واعدامات ميدانية أو
تنسيقية، ثم يصورونها على أنها تجربة ديموقراطية ناجحة.
دروس وعبر من القصة
نعلم مما
سبق أن الطغاة يستخدمون الأخطاء الصغيرة لتشويه صورة المصلحين كما فعل فرعون مع
موسى، فيستغل الظالمون أخطاء خصومهم ليحولوا الأنظار عن جرائمهم الكبرى.
وكذلك تفويض التكرار الإعلامي ليصنع واقعًا زائفًا إذا كررت الكذبة بما يكفي، ونتاج ذلك أن يبدأ الناس في تصديقها، حتى لو خالفت المنطق والواقع منطلقين من القول المشهور [اكذب أكذب حتى يُصدقك الناس]، وهذا الامر يذكرنا بمقولة الثائر الكوبي (تشى جيفارا) حين قال: "عندما تتبول السلطات على الشعوب يأتي دور الإعلام ليقنعهم أنها تمطر "...!!!، والامرُّ من ذلك كله والمحزن أشد الحزن أنك تجد شريحة كبيرة من الناس تصدق ذلك بل وتنجر ورائه وتدافع عنه.
وهنا
ندعوا بقوة إلى ضرورة التحقق من المعلومات وعدم الانسياق وراء الدعاية الزائفة، لانَّ
المسلم مطالب بالتحقق قبل تصديق أي ادعاء، وجاء ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}([4]).
ختاماً:
تبقى قصة
موسى وفرعون مثالًا خالدًا لكيفية استغلال الطغاة للإعلام وقلب الحقائق لصالحهم،
وما نراه اليوم من حملات التضليل والتزييف ليس إلا امتدادًا لهذه الممارسات. لذا
يجب أن نكون واعين ومدركين لهذه الأساليب، وألا ننخدع بالخطابات التي تحاول شيطنة
الحق وتبرير الباطل.
وكتبه
يوسف طه السعيد
إرسال تعليق