iqraaPostsStyle6/recent/3/{"cat": false}

حين أضاء القلب بُحب من لا يموت

الكاتب: يوسف طه السعيدتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ الذي علَّمَ القلوبَ أن لا تسكنَ إلا لرضاه، وأوقدَ في الأرواحِ نورًا لا يخبو سِواه، يُحبُّه العارفون إذا ذاقوا طَعمَ القُرب، ويهيمُ به الصادقون إذا نُزعت من أفئدتهم علائقُ الحُجب، فلا لذَّةَ تعادلُ ذكرَه، ولا سُكنى تُضاهي حضرته، ولا حُبَّ يدومُ إلا لوجهه.

سبحان الذي خلق القلوبَ لتسكنَ إليه، وتأنسَ بذكره، وتخفقَ بحبّه، وجعل لذّة القرب منه أصفى من كلّ لذّة، ونور معرفته أبهى من كلّ متعة، فيا سعادةَ من أحبّه، ويا خسارةَ من التفتَ إلى غيره.

سبحان من إذا أحبّ عبدًا طهّر قلبه من كلّ ما سواه، وأغناه بحبّه عن الخلق، وأبدله بنوره عن ظلمة الهوى، هو الحبيبُ الذي لا يُجافِي، والودودُ الذي لا يُغادِر.

سبحان الذي لا تطمئنّ الأرواح إلا بذكره، ولا يهدأ القلب إلا إذا استظلّ برحمته، من تعلّق به ما خاب، ومن ذاب في حبه ما تاب، هو الأوّلُ إذا ضلّ العاشقون، وهو الملاذُ إذا جفَتْهم الدنيا بمن فيها.

يا مَن أشرقت قلوبُ المحبين بنور وجهك، وتعلّقت أرواح العارفين بجلالك، أنت المعبودُ بحق، وكلّ حبٍّ سواك وهمٌ وزيف، فمن عرفك أحبّك، ومن أحبّك استراح، ومن استراح لك نجا.

وبعد...

في زوايا القلب، حيث لا يَدخل إلا من تملّك الأرواح قبل الأجساد، فقد يستوطن حبٌّ يُزرع كالحلم، ويَكبر كالأمل، ويَشتدّ كالوجع...

هكذا كان قلبُ المرأة حين أحبّت رجلاً، فأسكَنته سويداءها، ونسجت له من نبضها وشرايينها مقامًا لا يُمَسّ، وبنَت له من آهاتها عرشًا لا يُهدّ، حتى حسبته الحبيب الذي لا يُبدَّل، والسكن الذي لا يُستبدل.

لكن هل الحبيب مَن يَفنى؟

وهل المأوى من يَغيب؟

وهل تتعلَّق الروح بمن لا يُحسن الإحياء؟

وهل يُسكن القلبُ مَن لا يَملك الخلود؟

زليخا... المرأة التي عشقَت حتى العمى، ثم أبصرَت حين أضاء الله قلبها

أحبت يوسف عليه السلام حبًّا لو قُسّم على نساء الأرض لَما بقيت امرأةٌ على صواب عقل أو ثبات قلب. رأت فيه الجمال، وسَمِعَت منه الكمال، فرأته الروح وإن لم تَصرّح، وشُغفت به وإن لم يبُح.

أغلقت الأبواب، وفتحت له بابًا إلى نفسها، وظنّت أن الهوى حياة، وأن اللذة غاية. لكن حين زلزل اللهُ أرض الهوى تحت قدميها، وجعل يوسف يختار السجن على الاستجابة، عرفت أن الحبَّ الذي يُطفئ النور في العيون ليس بحب، وأن مَن يُفتن بالخَلْق لا يرى وجه الخالق.

عميت زليخا حين عشقت يوسف، وأبصرت حين أحبت الله. ذبلت حين تَعَلّقت بالمخلوق، وأزهرت حين عَلِقَ قلبها بالخالق.

رابعة... العاشقة التي سَجدت لوجه الله، لا لجمال الرجال

كانت امرأة، وكان في قلبها نبضُ أنثى، تعرف الوجد، وتشرب الشوق، وتَذوب في طيف الحب...

لكنها جرّدت قلبها من الخلق، وأهدَته للحق، وسكبت الدمع لا لأجل فَقْد حبيب، بل لأجل بُعد محبوب لا يُرى.

قالت في خلواتها: "اللهم إن كنت أعبدك خوفًا من نارك فاحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني منها، ولكن إن كنت أعبدك حبًّا لك، فلا تحرمني رؤياك!"

أي حب هذا الذي يُخرج من القلب كلَّ ما سوى الله؟

أي صفاء ذاك الذي يجعل من الدموع وسادة، ومن الليل معراجًا، ومن الصلاة سُكْنَى؟

رابعة لم تكن حجرًا لا يحب، لكنها كانت روحًا لا تُذلّ، وقلبًا لا يرضى أن يَخضع إلا للذي قال: ﴿وَهُوَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ([1]).

يا بُنيتي، أيتها العاشقة بالأمل...

اعلمي أن مَن تعلّق بمخلوق، كُسِر، ومن تعلّق بالخالق، انتصر.

الحب الذي لا يُذلّك، هو حب الله.  

الحب الذي لا يُؤلمك، هو حب الله.

الحب الذي لا يموت، هو حب الله.  

قد تُعجَبين برجل، قد تُفتَنين بعينين، قد تذوبين في لَفظٍ عذب، أو لمسة حنونة، لكن تذكّري:

من أحبّت بشرًا حتى العبادة، خسِرت الاثنين.

ومن أحبّت الله، كسبت كل شيء.

اجعلي قلبك محرابًا لا يُفتح إلا لله، ودعِي الحب يكون لك سلّمًا لا سلاسلاً، أجنحة لا أغلالًا. فمن عرف الله، هانت عليه الدنيا، وهان عليه مَن فيها، فلا يُفتن إلا به، ولا يُذلّ إلا بين يديه، ولا يُحبّ إلا لأجله.

الحبّ العابر بين سراب الهوى ونور الهدى

ما أكثرَ ما يُقال: "أحبّني وأحببتُه"، فإذا أنتَ بالقلب قد خُطف، وبالوجدان قد اغتُصب، تُساق إلى وهمٍ اسمه "الحب"، وهو في حقيقته إعجابٌ لحظي، أو تعلقٌ بظلّ لا أصل له، تُغذّيه المخيّلة، وتنفخه الأغاني، وتُباركه أعينٌ لم تبكِ من خشية الله.

ثم يسير من الوقت وما أسرع انطفاء ذاك اللهيب!

فبعد لهفة اللقاء، ودموع الاشتياق، تُقلَب الصفحة، وينكشف المستور، فيبقى القلب فارغًا إلا من أثر خيبة، وندمٍ على وقتٍ ضاع في غير رضا الله.

وقد أخبر الله تعالى عن هذه الروابط العابرة، فقال: ﴿الأخلاءُ يومئذ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلا المتقين([2]).  

فكل علاقةٍ لا تؤسَّس على التقوى، ولا يُباركها الحلال، تصبح يوم الحساب عداوةً تُمزّق القلوب، لا ذكرى تُؤنس الأرواح.

وفي مشهدٍ آخر، يصوّر القرآن صرخة الندم بعد فوات الأوان: ﴿يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانًا خليلاً([3]).

صرخةُ كلّ من أحبَّ بعيدًا عن الله، وركض خلف وهمٍ اسمه الحب، ليُدرك أخيرًا أنه ما أحبّ، بل تعلّق، وما ذاق لذة الوصال، بل وُهِم بالحضور.

وفي حديثه الشريف، يقول المصطفى ﷺ: "المرءُ مع من أحبّ". فمن أحبَّ لأجل الله، قُرّب منه، ومن أحبَّ لهواه، خُذل بهواه.

ولقد مرّت زليخا بفتنة العشق، حتى ﴿قد شغفها حبًا([4])، كما أخبر الله تعالى،
لكنها ما لبثت أن أبصرت نور الحقيقة، فانكسر صنم "الحب" في قلبها، وانتصب في مكانه عرشُ العبودية لله، وذاب ما سوى وجهه.

ورابعةُ... 

ما الذي جعلها تقول: "وإن كنتُ أعبدك لوجهك فلا تحرمني النظر إليه"؟ إلا أنها تطهّرت من كل حبٍّ أرضي، وصعدت إلى مقام المحبين حقًا.

فالحبّ – يا بُنيَّتي – ليس كل ما يخفق له القلب حبًّا، ولا كل دمعة تُسكب في وداع حبيب دليل صدق، إنّما الحبُّ الحق: ما قرّبك إلى الله، وما صان قلبك عن الخيبة، وما حفظك من الزلل، ورفعك إلى مراتب الأولياء.

في الختام...

الحب لا يُنكر، لكنه يُهذّب. والقلب لا يُطفئ، لكنه يُوجَّه.

فإن وجدتِ في قلبك نارًا تتّقد، فاجعليها نورًا يشتعل في رضى الله.

وإن خُيّرتِ بين قلب يهوى، وقلب يسجد، فاختاري السجود... ففيه الحياة.

واعلمي أن يوسف عليه السلام لما عرف طريق الطهارة، وحين عرفت زليخا حقيقة العبودية لله، زهدت في الهوى، وأقبلت على الإيمان.

ومن هنا، يتبين أن العلاقات الغرامية القائمة على الهوى، والتي يُسوّق لها تحت اسم "الحب"، غالبها وهمٌ خادعٌ لا يلبث أن يزول، وتبقى آثاره حسرة في القلب، وسوادًا في الروح، إن لم يتداركه التوبة والرجوع إلى الله.

اللهم يا من لا يزول ملكُه، ولا يخيبُ من سألك،

أسألك حبَّك، وحبَّ من يحبّك، وحبَّ كلّ عملٍ يقرّبني إلى حبّك،

اللهم انتزع من قلبي كلّ تعلّقٍ أوجعني، وكلّ شغفٍ صدّني عنك، وكلّ حبٍّ لم يكن لك، ولا فيك، ولا بك.

اللهم طهّر فؤادي من التعلّق بمن لا يدوم، ومن الانتظار لمن لا يعود، ومن التمنّي لمن لا يرى،

واجعل في قلبي أنسًا بك لا يخبو، وشوقًا إليك لا ينطفئ، ورجاءً فيك لا ينقطع.

يا من إذا أحبّ عبدًا كفاه، وإذا قرّبه أغناه، وإذا أنزل عليه رحمته أروَاه،

اجعلني ممن إذا ذُكرتَ سكن، وإذا ناجاك دمع، وإذا سجد لك ذاب.

اللهم اجعل حبّك أحبّ إليّ من نفسي، وأهلي، ومالي، ومن كلّ من سواك،

وارزقني لذّة الخلوة بك، ومتعة المناجاة بين يديك، وصدق الانكسار في حضرتك،

اللهم لا تذر في قلبي بقية تعلّقٍ إلا بك، ولا طرفة ميلٍ إلا إليك، ولا رجاءً إلا في رضاك.

يا من لم يخذل راجيه، ولا طرد بابه من أتى إليه،

أدعوك دعاء من أضناه التعلّق، وأتعبه الانتظار، ولم يشفِ روحه إلا قربك:

فكن لي، ولا تكلني إلى نفسي، واملأ قلبي بك، وهب لي حبًّا لك يُغنيني عمّن سواك.

اللهم إنك تعلم كم طرقَ الحبُّ باب قلبي، فما وجدتُ راحةً إلا بين يديك، فاجعلني ممن صدق في حبّك، وثبّت قدمه على طريقك، ونال لذة النظر إلى وجهك الكريم.

اللهم اجعل قلوبنا لا تهتدي إلا إليك، ولا تأنس إلا بك، ولا تتعلّق إلا بك، يا أرحم الراحمين...                                  

آمين يا أرحم الراحمين.

 

       وكتبه

راجي عفو ربه الحميد يوسف طه السعيد

غفر الله له ولوالديه

03/07 / 2025 م - 8 محرم ١٤٤٧ هـ

 



([1]) [المائدة: ٥٤].

([2]) (الزخرف: 67).

([3]) (الفرقان: 28).

([4]) (يوسف: 30).

شارك المقال لتنفع به غيرك

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات

224647537720518772

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث