نساء غزّة
صابراتٌ تحت النار، شامخاتٌ فوق الركام
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمدُ
للهِ جابِرِ القلوبِ المنكسرة، ومُنزلِ السَّكينةِ على الأنفُسِ المكلومة، وناصرِ
المظلومِ ولو بعد حين، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِ الصابرين، وإمامِ المحتسبين،
محمدٍ بن عبد الله ﷺ، وعلى آله وأصحابهِ الطيبين
الطاهرين، أما بعد:
هناك،
في زوايا العتمة، وتحت نيران القصف، تقف نساءُ غزّةَ وقفاتٍ يعجزُ عنها كثيرٌ من
الرجال، صبرًا، وثباتًا، وعفّةً، وتحمُّلًا للجوع والقهر والحرمان، يُوَدِّعن
أبناءهن إلى المقابر بأيدٍ ترتجفُ من الحزن، ولا تهتزّ من اليأس، ويَدفِنَّ
أزواجهن بأكفٍّ كسرتها النيران، وقوّاها الإيمان.
نعم،
في أقصى الأرض جرحٌ لا يندمل، وفي غزة نساءٌ ليس لهن إلا الله، صبرن حين ذاب
الصبر، وثبتن حين انهارت الجبال، ووارين أبناءهن تحت التراب بأيدٍ ترتجف، وقلوبٍ
يعلوها التسليم والرضا.
هنّ
بحقٍّ من خِيارِ نساءِ الدنيا صبرًا وعقيدةً وحكمةً وعفّةً، هنَّ تاجُ الكرامة،
ومنارةُ البطولة، ومرآةُ الثبات في وجه الانكسار، يتوسّدن الخيام، ويجاهدن بالصبر
والدعاء والتربية، ويَنسجن من الألم أملاً، ومن الجوع يقينًا، ومن الحصار عزيمةً
لا تلين.
ليست
غزة وطنًا محاصرًا فحسب، بل هي مدرسة للأمة، ونساؤها قناديل نورٍ في زمن الخذلان،
يُطاولن النار بثبات، ويُغالبن الجوع والبرد والحرَّ والموت بحياء العفّة، وإباء
الكرام.
في
خيمٍ بلا سقف، وتحت ليلٍ بلا كهرباء، تقف المرأة الغزِّيّة شامخةً، كأنها آيةٌ
تمشي على الأرض تقول: "لن ننكسر والله معنا".
هناك،
في الزاوية المحاصَرة من الأرض، وفي أقصى الجنوب الفلسطيني، حيث لا ماء ولا غذاء،
ولا دفءَ ولا دواء، تسكن نساءٌ ليس لهن في كتب الإعلام صوت، ولا على موائد
المفاوضات مقعد، لكن لهنّ في سماء الرب منزلةٌ لا يبلغها إلا الصدّيقون.
هنَّ:
نساء غزّة...
نساءٌ
قُتِل أولادهن فأخذن أكفانهن بأيديهن.
دُفِن
أزواجهن فَنَقَشْن على القبور آياتِ الصبر والتسليم.
تهدّمت
بيوتهن، فقلن: حسبنا الله، وسكبن دمعًا على التراب،
ثم
قمنَ ينظّفن الشارع من الحطام، ويُعدن ترتيب الحياة، من تحت الردم!
هنا النساء!
المرأة التي يقال عنها في نشرات الأخبار: قُتل أبناؤها الأربعة، لا تصرخ، لا تلعن، لا تعترض، بل ترفع يديها للسماء وتقول: "اللهم إني استودعتك فلذات كبدي، فاقبلهم شهداء، ولا تحرمني أجرهم!"
المرأة
التي تحت الخيمة، وقد انقطع عنها الماء والكهرباء، وساء غذاؤها، وضَعُفَ لحمها،
وأُصيب جنينها، لا تهاجر، لا تهرب، لا تساوم، بل تقول:
"نموت
هنا، ولا نفرّ من أرض الإسراء!"
المرأة
التي استشهد زوجها وأبوها وإخوتها، وما زالت تُنادي على أبنائها: "قوموا
توضأوا، نريد صلاة الفجر جماعة!"
ما
زالت تُربّي أبناء الشهداء كأنهم فلذات كبدها، وتقول لأمّ ثكلى مثلها:
"صبراً، فالملتقى الجنة".
نساءٌ
يعرفن الشهادة ولا يعرفن المذلّة
نساء
غزة لا يصرخن من الجوع، بل يصرخن من خيانة الأمة!
لا
يشكون الحرّ، بل يشكون صمت القريب والبعيد.
تُقيم
الواحدة منهن بيتًا من خيمة، وتُزيّنه بالكلمات: "اللهم اجعل صبرنا سبب
نصرنا، واجعل ثباتنا طريق الشهادة!"
أمّ في
غزة دفنت ثلاثة أبناء في يومٍ واحد، ورجعت إلى بيتها تغسل ثياب الشهداء، وتحضر
طعام العَزاء وهي تقول: "بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون".
نساء
من نسيج خديجة، وعزم آسيا، وصبر أم عمّار
هنّ من
معدن خديجة بنت خويلد، تصبر على فقد المال والولد، وتُسند الرجولة في بيتها. ومن
روح أسماء بنت أبي بكر، تطوي الجوع عن أبنائها، وتعطيهم كسرة الخبز وتبتسم. ومن
يقين أم عمّار التي يُضرب ابنها، ومُزِّق زوجها، وهي تأبى إلا الإسلام.
ما
قيمة الحياة أمام عزّة نساء غزة؟
أيُّ
حياةٍ تُقاس عند امرأةٍ تقول وهي في الخيمة: "لن أغادر! هذه الأرض لي، وسأدفن
فيها إن لزم الأمر".
أيّ
نساءٍ في الدنيا يحتملن أن: تُقطَع عنهن الكهرباء شهوراً، بل سنين، ويَشتدّ عليهن
الحر حتى يُغشى على أطفالهن، وتخرج الأفاعي والعقارب من تحت الفرش، ويشتد الجوع
حتى تأكل الواحدة منهن خشاش الارض؟!
ثم ما
تزال تقول: "نحن على الحق، والحقّ معنا، ولن ننحني".
رسالة
إلى نساء العالم: هكذا تكون النساء!
يا
نساء المسلمين، هل رأيتنّ أمًّا تلبس السواد عامًا كاملاً، وتبقى واقفة؟
هل
رأيتن امرأةً في ركام بيتها تبني مدرسة لأطفال الحي؟
هل
رأيتن امرأةً تمشي على الجراح وتُرضع طفلاً بلا حليب، وقلبها مليء بالإيمان؟
هؤلاء
هُنَّ قدوتكن، لا المغنيات، ولا نجمات الموضة، ولا المترفات في حفلات الجوائز.
فيا
أحرار الأمة...
إذا
أردتم أن تعرفوا معنى الصبر، فاسألوا نساء غزة. وإذا أردتم أن تروا كيف تلد
النساءُ رجالًا، فانظروا في بيوت الشهداء. وإذا أردتم أن تحيوا، فلا تموتوا في
صمتكم عن هؤلاء الماجدات.
اللهم
احفظ نساء غزة، اللهم اجعل في كل دمعةٍ لهنّ رفعَة، وفي كل بيتٍ يُهدَم، بيتًا في
الجنة، وفي كل ولدٍ يُستشهد، بابًا من أبواب الفخر. اللهم ارزقنا صبرهنّ، وامنحنا
قوة إيمانهنّ، ولا تجعلنا من الخاذلين!
وكتبه
راجي
عفو ربه الحميد يوسف طه السعيد
غفر
الله له ولوالديه
27
محرم 1447هـ - 22/ 07/ 2025م
إرسال تعليق