أَنَأْكُلُ الطَّعَامَ وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو غَزَّةَ هَلْكَى؟!
"أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى؟!"
صيحة نفضت الغبار عن نخوةٍ خرساء، وهزّت
عرش القسوة في قلوب قومٍ، استيقظت إنسانيتهم عند رؤية الجوع والحصار!
قالها مشركٌ قبل أن يقولها مؤمن، وقالها
عربيٌّ حرّ قبل أن يقولها مسلمٌ نقيّ.
فَكيفَ مَضتْ قُرُونٌ، وَتَوَالَتْ أَعصَارٌ،
ثُمَّ صرنَا نَأكُلُ ونلبَسُ، ونرقُصُ ونحتَفِلُ، وَبَنُو غَزَّةَ يُقصَفُونَ ويمُوتُونَ
خَوفاً وجُوعاً وحسْرةً وألماً؟!
كَيفَ نَأكُلُ وغيرُنَا من إخواننا يجُوعُ؟!
وَنَلبسُ وغَيرُنَا من أهلنا عَارٍ؟!
ونرقُصُ وغيرُنَا من أبناءِ دِينِنَا ومِلتِنَا
يُقْصَفُ بِالنَّارِ؟!
أَيُّ قَسوةٍ هذهِ؟! وأَيُّ ضمِيرٍ ذاكَ
الَّذي لا يَهتزُّ لِوجعِ الأَطفالِ؟!
أيُّ قسوةٍ هذه التي حلَّت في أوصال
الأمة؟
أيُّ موتٍ للضميرِ جعل الطغاةَ يصِلونَ
الليلَ بالنهارِ في قتلِ الأبرياءِ، بينما قادة الأمة وأحزابها وعُقلاؤها
وأغنياؤها يتفرّجون صامتين؟!
أليس فيهم نخوة هشام بن عمرو واحد؟!
أليس فيهم من يصرخ في وجه المذلة ويقول:
"أنأكل الطعام ونلبس الثياب،
وإخوتنا تحت الردم والركام؟!"
يا ويحنا! لقد خذلنا غزة في كل شيء، إلا
بالبكاء... بل حتى البكاء صرنا نمارسه بجبنٍ خلف الشاشات، نَمدّ أناملنا لنشر صورة
على خوفٍ ووجلٍ وخجلٍ، أو مقطع، أو شِعر، ولا نُمدّ يدًا تنقذ طفلاً، أو تمنح
لقمة، أو ترفع صرخةً في وجه الخونة.
نحن في زمنٍ كسرت فيه الأمة كل القيم:
فلا دينٌ نصرناهم به، ولا مروءةٌ دفعتنا
لنجدتهم، ولا عُرفٌ عشائريٌّ ألزمنا بالذود عن العرض والجار، ولا إنسانيةٌ كفّت عن
تجاهل الدماء النازفة من الشاشات. فلا نخوة أهل الجاهلية حركتنا، ولا عز أهل الإسلام
أقامتنا، ولا نخوة العرب حرقت صدرونا.
نعم لقد خالفنا شرع الله فاستحققنا
العقاب، قال رسول الله ﷺ: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يُسلمه"([1]).
وقد أسلمناهم، وخذلناهم، وظلمناهم بالصمت والسكوت والرضا.
بل بعضنا تحالف مع أعدائهم، أو برّر
للقاتل فعله، أو اتهم الشهيد بأنه أرعن، أو وصف مقاومًا بأنه أحمق، فصرنا في صف
الباطل، دون أن نشعر.
ولقد أنذَرنا الله، فهل وعينا؟
قال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾([2]).
غزة ما طلبت مالكم، ولا قصوركم، ولا
جيوشكم المهترئة، بل استنصرتكم في الدين، فهل نصرتموها؟
لقد تركناهم تحت الحصار، بل سجنّاهم فيه،
وأغلقنا عليهم حتى أنفاسهم، ثم تساءلنا: لِمَ لا ينزل النصر؟!
ألا تعلم إنْ خذلناهم اليوم، فغدًا يأتي
دورنا:
نعم هذه سنة الله في الظالمين والمفرّطين أن يُذلّهم كما أذلّوا غيرهم، ويخذلهم كما خذلوا إخوتهم. وستأتي أيام، نقع فيها تحت القصف، ونستغيث فلا يُغاث لنا، ونصرخ فلا يُلبّى صوتنا. حينها، لا تلوموا إلا أنفسكم، فقد رفعتم راية الجبن، وكسرتم عهد الأخوة، ومزقتم ثوب الدين!
قال ﷺ: "من خذل مسلمًا في موطنٍ
يُنتقص فيه من عرضه ويُستباح فيه من حرمته، خذله الله في موطنٍ يُحب فيه نصرته"([3]).
يا غزة… عذرًا:
عذرًا، لأننا عُدنا إلى الجاهلية في زمن
العولمة.
عذرًا لأن رجالًا في قريشٍ المشركة، كانت
لهم نخوة، لا نجدها اليوم في وجوه مدّعي الدين والحضارة.
عذرًا لأن أبناء الأمة الإسلامية لم
يعودوا يشعرون أن الجوع جوعك، وأن القهر قهرهم، وأن الشهادة لك شرف، ولهم خزيٌ
دائم.
ختامًا أقول: من لا تُوقظه صرخةُ طفلٍ من تحت
الأنقاض، ولا يُبكيه رجلٌ يمسح الدم عن وجه ابنه الشهيد، ولا
يُحرّكه أنين أمٍّ تقول: "هل مات ولدي؟"، فقد مات قلبه، وإن
كان حيًّا بين الناس.
اللَّهُمَّ إنَّا نشكو إليكَ ضعفَ قوَّتِنا، وقِلَّةَ
حيلتِنا، وتقصيرَنا في نصرةِ عبادِك المظلومين في غزة.
نشكو إليك خُذلانَنا، وسُكوتَنا، وانشغالَنا بالدنيا عن
صرخات أطفالٍ تُنتزع أرواحهم تحت الركام. اللَّهُمَّ يا جَبَّارَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ، يا نَاصِرَ المُستَضْعَفِينَ، يا قَاصِمَ الظَّلَمَةِ،
اللَّهُمَّ انصر إخوانَنا في غزَّةَ نصرًا مؤزَّرًا، اللَّهُمَّ
أيِّدْهُم بِرُوحٍ مِنْكَ، وثبِّتْ أقدامَهم، وسدِّدْ رميَهم، واحفظهم بحفظك الذي
لا يُرام. اللَّهُمَّ اجعل بأسَهم في نحورِ عدوِّهم، وافتحْ لهم فتحًا قريبًا،
يُذهل فيه الطُّغاةُ، ويهتز له الظالمون، ويعلم به القاصي والداني أنَّك أنتَ
الله، لا إله إلا أنت.
اللَّهُمَّ إنا نستغفرك أنَّا لم نَحمِل إليهم قُوتًا، ولا
دَفعنا عنهم عَدوًّا، ولا جهَّزنا لهم جندًا، ولا آزرناهم بشيءٍ من حقِّ الأخوَّة،
اللَّهُمَّ فاعفُ عنَّا، اللَّهُمَّ لا تجعلنا من الخاذلين، ولا تُمسِكْ عنَّا
غوثك بما فعلنا.
اللَّهُمَّ إنَّ أهلَ غزةَ قد جاعوا، ونحن أَكلنا، وقد
عَرَوا، ونحن تكسَّينا، وقد بَكَوا، ونحن ضَحِكنا، وقد نادوا، ونحن سكتنا، وقد
استُشهِد أبناؤهم، ونحن نُعطِّل مالنا في لهونا ولهونا.
اللَّهُمَّ إنا نبرأ إليك من كل حاكمٍ أو وزيرٍ أو قائدٍ أو
تاجرٍ أو غنيٍّ أو قادرٍ، يملك أن ينصرهم، ثم لا ينصرهم، يملك أن يُطعِمهم، ثم لا
يُطعِمهم، يملك أن يُدافع عنهم، ثم يسكت أو يتحالف مع عدوهم.
اللَّهُمَّ عليك بكل من يستطيع دفعَ العدوان، ولم يفعل، اللَّهُمَّ
اكفِ أهلَ غزةَ شرَّه، واكفِ الأمةَ خذلانَه، وأبدِلْهُ بمن هو خيرٌ منه.
اللَّهُمَّ اجعل في كُلِّ نَفَسٍ لأهلِ غزةَ نُصْرَة، وفي
كُلِّ دَمعةٍ رِفعة، وفي كُلِّ شَهيدٍ عِزًّا، وفي كُلِّ صرخةٍ هزَّةً للضمائر
الميِّتة، والقلوب الغافلة.
اللَّهُمَّ لا تُسلِّطْ علينا من لا يخافك فينا، ولا يرحمنا،
اللَّهُمَّ أبدلنا بخيرٍ من حكامٍ خرس، وتجارٍ بُكْم، وأغنياءَ صمّ، اللَّهُمَّ
أذِلَّ كلَّ من رضيَ بخذلانهم، أو سكت عن قتل أطفالهم،
اللَّهُمَّ اجعل مكرَ الظالمين في نحورهم، وخذلَ الخاذلين
عليهم وبالًا.
اللَّهُمَّ إنّ قلوبَنا معهم، لكنَّ قلوبنا لا تكفي!
اللَّهُمَّ فاكتب لنا عذرًا، أو ارزقنا نصرةً، أو لا تحرمنا
من دعوةٍ تُدخِلنا في زمرة أهل المروءة.
اللَّهُمَّ إن لم يكن لنا نصيبٌ في نصرتهم، فاجعل لنا سهمًا
في حمل الدعاء.
اللَّهُمَّ آمين... آمين... آمين.
وكتبه
راجي عفو ربه الحميد يوسف طه
السعيد
غفر الله له ولوالديه
27
محرم 1447هـ - 22/ 07/ 2025م
إرسال تعليق