النفوس مجبولة على
الاختلاف
من خلال ما سبق علمنا معنى الخلاف والاختلاف،
ومن بديهيات علمنا نجد أنَّ الاختلاف في
الغرائز والملكات الإنسانية في المجالات الحياتية أمر طبيعي في بني آدم، وذلك
لاختلاف الطبائع والمشارب، قال تعالى: {وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ
أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ
رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ .....١١٩}([1])،
وبناءً على هذا الاختلاف الطبعي تجد الحياة تبنى، وتثرى الموجودات بمعطيات الإنسان
الهائلة المتجددة على مدى الزمان، قال تعالى: {أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ
رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ
وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا
سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٣٢}([2])،
وعلى أساس هذا النوع من الخلاف تعمر الحياة، وتتنوع أنشطة الإنسان، وبه تحصل
مقومات الخلافة في الأرض وتسد حاجات الإنسان المختلفة في مجالات حياته المختلفة([3]).
أما في الجانب الديني بفرعه العقدي فقد أخبر تعالى أنَّ الاختلاف لا بد من
وقوعه ليميز الله الحق من الباطل، فيضل من يشاء عدلاً، ويهدي من يشاء فضلاً، فتظهر
من آثار حكمه القدرية نظير ما أظهر لعباده من حكمه الشرعية، قال تعالى: {وَلَوۡ
شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ
مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ
١١٩}([4]). فالمرحومون من عباد الله من لا
يوجد الخلاف بينهم وتستنير قلوبهم بالاتباع ويفرون من البدع والابتداع.
من جانب آخر لم يختلف علماء الإسلام
المعتبرين في أصول الدين ومصادره المعتبرة، فكان القران الكريم والسنة المطهرة
واجماع المسلمين مصدرهم الأول الذي لا يُقدم عليه كلام لبني البشر، ولا استدلالات
عقول واستنباطات فهوم، إلا بعد أنْ يتيقنوا أنَّ هذه الاستدلالات جاءت تبعاً
للدليل النقلي، ولا يجعلون للرأي مجالاً أمام وجود النصوص الشرعية، ومن العلماء من
نبذ الرأي بكل استعمالاته سواء كانت عقدية أو فقهية، وقد شدد الامام أحمد في هذا
الباب حتى جعل الحديث الضعيف دليلاً لبعض الأبواب الفقهية حين لا يجد حديثاً
صحيحاً فيه، وقال -رحمه اللَّه-: "لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ كَلَامٍ أَبَدًا،
وَلَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا نَظَرَ فِي الْكَلَامِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ
دَغَلٌ"([5])،
كيف لا ونحن قرأنا في محنة رحمه الله تعالى حجم الظلم والجور الذي حلَّ بأهل الاسلام
من هؤلاء المنحرفون عن الجادة. قال الفضل بن زياد وَسَأَلْتُ أَبَا عبد الله عن الكرابيسيّ وما أظهره،
فكلح وجهه ثم أطرق، ثم قَالَ: هذا قد أظهر رأي جهم.
قَالَ اللَّه تعالى: {وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ
حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ
قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ ٦}([6]) فممن يسمع. وَقَالَ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فله الأمان حتى يسمع كلام اللَّه»
إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وأقبلوا عَلَى هذه الكتب"([7]). وقال
أَبُو مزاحم مُوسَى بْن عُبَيْد اللَّه بْن يَحْيَى بْن خاقان قَالَ: قَالَ لي عمي
وسألته- يعني أحمد بن حنبل- عَنِ الكرابيسي فَقَالَ: مبتدع"([8]).
وذكر السّاجيُّ عن أبي ثورٍ قال: قلت للشّافعيّ -رحمه اللّه-: ضَعْ فِي الْكَلَامِ
شَيْئًا فَقَالَ: "مَنْ تَرَدَّى فِي الْكَلَامِ لَمْ يُفْلِحْ"([9]).
وصدق -رحمه الله- إذ لا فلاح ولا نجاة لمن ترك الوحيين، وهدي الصحابة والتابعين، وتبع
عقله وهواه، حتى استدرجه الشيطان فأغواه، فضل عن السبيل وضاع مبتغاه. قَالَ
مَالِكٌ: "أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ مَنْ هُوَ أَجْدَلُ مِنْهُ أَيَدَعُ دِينَهُ
كُلَّ يَوْمٍ لِدَيْنٍ جَدِيدٍ؟"([10]).
وذكر ابن أبي خيثمة، قال: ثنا محمّد بن شجاعٍ
البلخيّ قال: سمعت الحسن بن زيادٍ اللّؤلؤيّ، وقال له رجلٌ في زفر بن الهذيل:
"أَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا
أَحْمَقَكَ مَا أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا زُفَرَ وَأَبَا يُوسُفَ، وَأَبَا
حَنِيفَةَ، وَمَنْ جَالَسْنَا وَأَخَذْنَا عَنْهُمْ يُهِمُّهُمْ غَيْرُ الْفِقْهِ
وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ"([11]).
هذا حال الائمة الأربعة ورايهم فيمن سلك مسلك
الكلام والمتكلين، وأهل الإسلام من أهل السنة والجماعة([12])،
في هذا الباب قديماً وحديثاً لم يخرجوا عن قولهم إننا نثبت ما أثبته الله تعالى
لنفسه من الأسماء والصفات من غير تشبيه ولا تحريف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تكييف
ونمرها كما جاءت([13]).
جمع وترتيب وتعليق
يوسف طه السعيد
([12]) المقصود بأهل
السنة والجماعة: هم الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، ومن سلك سبيلهم، وسار على
نهجهم، من أئمة الهدى، ومن اقتدى بهم من سائر الأمة أجمعين. ويخرج بهذا المعنى كل
طوائف المبتدعة وأهل الأهواء. فالسنة هنا في مقابل البدعة، والجماعة هنا في مقابل
الفرقة.
انظر: وسطية
أهل السنة دون الفرق ص 92- 94، وكتاب لزوم الجماعة ص 276- 277.
([13]) ا- لتحريف لغة: التغير
والتبديل. والتحريف في باب الأسماء والصفات هو: تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات
أو معانيها عن مراد الله بها.
- التعطيل لغة: مأخوذ من العطل الذي هو الخلو
والفراغ والترك، والتعطيل في باب الأسماء والصفات هو: نفي أسماء الله وصفاته أو
بعضها.
- التكييف لغة: جعل الشيء
على هيئة معينة معلومة، والتكييف في صفات الله هو: الخوض في كنه وهيئة الصفات التي
أثبتها الله لنفسه.
- التمثيل لغة: من المثيل وهو الند والنظير، والتمثيل في باب الأسماء
والصفات هو: الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات الخلوق.
راجع في معاني هذه الألفاظ
كتاب "معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات" (ص 70-81) .
إرسال تعليق