iqraaPostsStyle6/recent/3/{"cat": false}

الحكم الإسلامي ضرورة أهل الاسلام

الكاتب: يوسف طه السعيدتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

 

الحكم الإسلامي ضرورة أهل الاسلام

  

]أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَالمائدة: 50

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد...

فإن المتطلع الى أحوال المسلمين اليوم يعي الحجم الكبير لجهل أهل الإسلام بأصول أحكام دينهم ولاسيما باب الحكم والحاكم، ومعلوم أنَّ هذا الباب واسع كبير ذو أهمية كبيرة، بل قد أخبر الله تعالى أنَّ الحكم في الشريعة الإسلامية حياة الناس و استقرارها قال الحكيم الخبير : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}([1])، إلا أنَّ المسلمين في كل أنحاء العالم قد جهلوا الإسلام وانحرفوا عن طريقه الواضح، حتى لم يعد في الدنيا كلها بلد يُقام فيه الإسلام كما أنزله الله، سواء في الحكم أو السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، أو غير ذلك مما يمس مصالح الأفراد والجماعات، ويقوم عليه نظام الجماعة، ويدعو إلى صلاحها وإسعادها.

لقد ظل المسلمون ينحرفون عن الإسلام حتى هجروا أحكامه، ثم اتخذوا لأنفسهم أحكاماً تقوم على أهوائهم ومنافعهم، فأدى ذلك إلى التحلل والفساد، وملأ بلادهم بالشرور والآثام، وعاد على جماعتهم بالبؤس والشقاء، حتى تجد أنَّ الحاكم في البلاد الإسلامية في واد والرعية في واد غيره، فلا العيش تساووا فيه ولا الحقوق مستردة لأصحابها، بل تجد الظلم والاستبداد قد استشرى، والانحلال كل يوم يزداد انتشاراً كالسرطان في جسم من أُصيب به.

وأمام هذه الموجة الغربية العارمة تجد أنَّ لهذه الهبوط والسقوط والانحلال من يُسوق ويدعوا له، فلا الحكام منعوه ولا الدعاة نصحوا لمنعه، وكل مشتغل بما وأُكِل إليه وكُلِّف به حتى صار حال الأمة الى ما هي عليه. ولعل المتتبع المنصف المتجرد للحق يعلم أنَّ الحل الأمثل لرد الامة الى مسارها الصحيح واحلال السلام والأمن والعدل والمساوة يكمن في نظام الحكم، والمسلمون اليوم أحوج إلى معرفة حقائق الإسلام، وقد تكالب عليهم المحتلون والمنافقون والمدسوسون والمحرفون والخونة للملة والدين، وزين لهم أعداء الدين ما يُسمى بالديمقراطية والاشتراكية والليبرالية، ليعلموا أن لا عاصم لهم من احتلال الفِكر والأرض إلا الإسلام، وأنَّه لا يتحقق مسمى العدالة والمساواة في بلادهم إلا الإسلام، بل هو واجب عيني على كل مسلم يستطيع أنْ يُبين للمسلمين ما خُفي عليهم من أحكام الإسلام، وأنْ يعرضه عليهم في لغة سهلة يهضمونها ويفهمونها وفي أسلوب عصري يُقبلون عليه ويتقبلونه.

ولعلي في هذه الوريقات أُفق في بيان معنى الحكم والمراد من لفظه ووروده في القران الكريم، واستعمال القران الكريم له، علماً أنَّ هذا البحث قسم من بحث أشمل من هذا الجزء الا إني اقتطعت هذا القسم لضرورة المادة سائلا المولى أن يجعلها بذرة خير الدرب الطالبين والله الموفق وهو الهادي للسبيل.

 

المطلب الأول مفهوم الحكم في اللغة والاصطلاح

مفهوم الحكم لغة

قال ابن منظور في معنى لفظ الحكم: هو العلم والفقه والقضاء بالعدل، وهو مصدر حكم يحكم، والحاكم: منفذ الحكم، والجمع: حكام، وحكموه بينهم: أمروه أنْ يحكم ويقال حكمنا فلاناً فيما بيننا أيّ اجزنا حكمه بيننا([2]).

وقال الواحدي: الحُكْمُ: القضاء وأصله المنع يقال "حَكَمْتُ" عليه بكذا إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك و"حَكَمْتُ" بين القوم فصلت بينهم فأنا "حاكم" و"حكم"([3]).

مفهوم الحكم في الاصطلاح

عرَّف علماء الإسلام الحكم بتعاريف كثيرة بألفاظ مختلفة لكن المعاني واحدة أو قريبة من بعضها، وقد نقل الزحيلي بعض تعاريف العلماء في مفهوم الحكم الإسلامي فقال : "الإمامة العظمى أو الخلافة أو إمارة المؤمنين كلها تؤدي معنى واحدة ، وتدل على وظيفة واحدة هي السلطة الحكومية العليا، وقد عرفها علماء الإسلام بتعاریف متقاربة في ألفاظها ، متحدة في معانيها تقريباً، علماً أنَّه لا تشترط صفة الخلافة، وإنما المهم وجود الدولة ممثلة بمن يتولى أمورها، ويدير شؤونها، ويدفع غائلة الأعداء عنها..." ثم نقل مجموعة من تعاريف العلماء فقال : قال الدهلوي : "الخلافة : هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد، وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ".

وقال التفتازاني: " الخلافة: رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا، خلافة عن -النبي صلى الله عليه وسلم".

وقال الماوردي: " الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا "([4]).

وحدد ابن خلدون بطريقة أخرى وظيفة الإمامة فقال: هي حمل الكافة على مقتضی النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي (أي الخلافة في الحقيقة: خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"([5]).

وقال وائل الزرد: " يمكن تعريف "نظام الحكم" بأنَّه مجموعة الأحكام والقواعد التي تشرف على تطبيقها ورعيتها دولة إسلامية تستمد مقوماتها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهذه الدولة هي دولة الخلافة الإسلامية التي يرأسها الخليفة أو الإمام الأعظم أو أمير المؤمنين"([6]). وعلى ما سبق من تعريفات نفهم أنَّ نظام الحكم في الإسلام: هي الأحكام المنظمة للسلطة السياسية، وتدبير شؤون أهل الإسلام بما يصلح أحوالهم، ويدرأ عنهم الفساد، ويحفظ لهم حقوقهم تحت أحكام الكتاب والسنة وتقريرات العلماء فيما لم يرد به نص، على يد حاكم يختاره علية القوم من أهل الحل والعقد فيخول لإدارة البلاد مع من يختارهم بطانة صالحة له تعينه في تسيير أمور الحكم.


المطلب الثاني: استعمال القران للفظة "حكم" ومشتقاتها

جاء هذا لفظ الحُكم في القران الكريم بصيغ واشتقاقات عديدة، منها الماضي المجرد من الضمائر، والماضي المتصل بضمائر، ومنها ما هو بصيغة المضارع المتصل بضمائر، ومنها ما هو بصيغة الأمر ومنها ما هو بصيغة المصدر المجرد من الإضافة أو المصدر المضاف إليه، ومن المفردات التي ورد ذكرها في القران الكريم: ( حُكْمُ ، حَکَمْتَ، حَكَمْتُمْ ، فأحْكُمُ، لتَحْكُمُ، تُحْكُمُ ، تَحْكُمُوا، تُحْكُمُونَ ، يَحْكُمَانِ، يُحَكِّمُوكَ، يَتَحَاكَمُوا ... ) ولأجل أنْ تتضح هذه التصاريف والاشتقاقات بصيغها المختلفة، وأن تتضح السور المكية والمدنية بأرقام الآيات التي وردت فيها هذه الصيغ أدرجت هذا الجدول المرتب للفظة حسب تسلسلها في المعجم المفهرس([7])، وكما موضح في التالي:

 

اسم السورة

زمن نزولها

صيغ اللفظ الوارد

عدد تكرار اللفظ

غافر

مكية

حكم

مرة واحدة

المائدة

مدنية

حكمت

مرة واحدة

النساء

مدنية

حكمتم

مرة واحدة

آل عمران

مدنية

فأحكم

مرة واحدة

النساء

مدنية

تحكم

مرتين

النساء

مدنية

تحكموا

مرة واحدة

يونس

مكية

تحكمون

4 مرات

البقرة

مدينة

يحكم

22 مرة

الانبياء

مكية

يحكمان

مرة واحدة

الانعام

مكية

يحكمون

4 مرات

المائدة

مدنية

احكم

7 مرات

النساء

مدنية

يحكموك

مرة واحدة

المائدة

مدنية

يحكمونك

مرة واحدة

الحج

مكية

يحكم

مرة واحدة

هود

مدنية

أحكمت

مرة واحدة

النساء

مدنية

يتحاكموا

مرة واحدة

آل عمران

مدنية

حكم

17 مرة

يوسف

مكية

حكماً

8 مرات

الرعد

مدنية

حكمه

4 مرات

الانبياء

مكية

لحكمهم

مرة واحدة

النساء

مدنية

حكماٌ

3 مرات

الاعراف

مكية

الحاكمين

5 مرات

 

 

 

 

 

وغيرها من الألفاظ، فقد ورد لفظ [حكم] ومشتقاته في القرآن الكريم في نحو مائة موضوع ترجع في جلتها إلى القضاء والفصل بالحق والعدل؛ لمنع العدوان والظلم.

ومن خلال استعراض مشتقات لفظ "حكم " بصيغها وتصاريفها المتعددة، يمكن الوقوف على ملاحظتين هامتين وهما:

الأولى: إنَّ الصيغ الموجودة لِلفظ (حكم) في كتاب الله جميعها تتعلق في الماضي والمضارع والأمر والمصدر، وذلك يدل على أنَّ هذا الحكم يكون مدار حياة الإنسان في ماضيه وحاضره ومستقبله، وكانت صفة الأمر من حكم التي تفيد الاستقبال وردت في كتاب الله، لأنَّ الله يأمرنا بأن نتخذ دينه حكماً لنا، ولأنَّنا بغيره لا يمكن أنْ تستقيم الحياة الدنيا، وهذا يدل على أنَّ الحكم بما أنزل الله واجب على الأمة الإسلامية عامة وعلى الحاكم خاصة.

الثانية: من خلال عدد الآيات المكية والمدنية وما وردت فيه هذه الآيات من سور مكية أو مدنية نلاحظ أنَّ عدد الآيات المدنية تقريباً ضعف الآيات المكية، وهذا يوحي بأنَّ حكم الله كان موجود في العهدين المكي والمدني، مع تأصله في العهد المدني، وإنْ كانت البداية في العهد المكي أصعب نظراً لِقلة عدد المسلمين وضعفهم، وأنَّ الحكم لبناء الدولة كان مطلوباً أكثر في السورة المدنية، لأنَّ دولة المسلمين قامت في المدينة، وسأردف في الفهارس الآيات التي ورد فيها الالفاظ السابقة ان شاء الله.


المطلب الثالث: دستور دولة الإسلام ودعائمها

أولاً: نظام الحكم الشرعي: (الحاكمية)

إنَّ النِّظام الإسلامي في الحكم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدين وأخلاقه وعقيدته، فالواقع العلمي يدل على ذلك، فخاصة المسلمين في كل عصر منذ عهد أبي بكر -رضي الله عنه- وطيلة عهود الخلافة كانوا يبايعون الخلفاء والأمراء على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله علية وسلم- ويجعلون ذلك أساس الارتباط مع الدولة، فكلما تمسك الولاة بالشريعة قويت الأصرة بينهم، ولقد اقترنت السياسة بالدين في الإسلام وارتبطت العقيدة الصحيحة ولم يبق في الأرض عقيدة سليمة غيرها([8])، لقد جمع الإسلام بين الرسالة والخلافة ، قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}([9])، ولذلك أجمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من ما تبين لهم الهدی([10]).

إنَّ تحقیق حاکمیة الله على الأمة من خلال دولة مسلمة هو محض العبودية لله لأنَّ بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين قال تعالى: {... أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}([11]) يعني: "ما الحكم الحق في الربوبية والعقائد والعبادات والمعاملات إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله لا يمكن لبشر أنْ يحكم فيه برأيه وهواه ولا بعقله واستدلاله ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله باختلاف الأزمنة والأمكنة"([12])، يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- : "إنَّ الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعياً أخص خصائص الألوهية وهي الربوبية أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه وإنَّ الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الصالحة عن قلوب الناس فما يمكن أنْ يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلا أنَّ الحكم لله وحده لأنَّ العبادة لا تكون إلا لله وحده والخضوع للحكم عبادة "([13]).

لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية الحاكمية لله تعالى، قال الحكيم : {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ  وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}([14])، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}([15])، فكما أنَّ تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزالها، وكما أنَّ العبادة لا تكون إلا عن وحي منزل فكذلك لا ينبغي أنْ يحكم إلا بشرع منزل أو بما له أصل في شرع منزل([16])، قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}([17])، "فالكتاب والميزان هما: ما نقل صدقاً وما شرع عدلاً لإقامة الناس على شريعة الحق اتباعاً للرسل فمن أبى فقد جعل الحديد رادعا لكل معاند بعد قيام الحجة"([18]). إنَّ إقامة حكم الله على المجتمع من خلال الدولة عهد وميثاق ذكره الله تعالى في قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}([19])، فهذا تذكير من الله لعباده المؤمنين بنعمته عليهم في الشرع الذي شرعه لهم في هذا الدين العظيم المرسل به الرسول الكريم وأخذ للعهد والميثاق عليهم في متابعته ونصرته وإبلاغه و القيام به وهذا مقتضى البيعة التي كان الصحابة يبايعون عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والمكره، كما أنَّ الإخلال بعهد الحاكمية جاهلية قال تعالى : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}([20])، في الآية الكريمة إنكار وتوبيخ وتعجيب من حال من يتولى عن حكم الله وهو يبغى حكم غيره والآية تعبير لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم يبغون حكم الجاهلية التي هي هوي وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحى([21]).

إنَّ تحقيق الحاكمية تمكين للعبودية وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنس والجان قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}([22])، " أي ليطيعوه وحده لا شريك له"([23]).

ثانياً: الحاكم الصالح

إنً الحاكم إذا كان صالحاً، مستوفياً للصفات الشرعية، فإنِّه يكون أحد الدعائم القوية التي تشد من أزر دولة الإسلام، وتعينها على القيام بوظائفها السامية خير قیام استجلاباً للخير ودفعاً للشر.

وبقدر ما يأتي الخير ويكثر في وجود الإمام الصالح، بقدر ما يتفاعل الشر وتتفاقم الفتن في حالة خلو الزمان منه، يقول الإمام أحمد رحمه الله: "الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس"، ويقول أيضاً: "لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ "([24]).

والأصل في الإمام أنْ يكون صالحاً في نفسه قدوة لغيره، فكلمة (الإمام) نفسها تدل على ذلك فمعنى الإمام هي: القدوة ومنه قيل لخيط البناء: إمام ويقال للطريق إمام لأنه يؤم فيه المسالك أي يقصد([25]). وقد قال الله تعالى لنبيه إبراهيم -عليه السلام-: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}([26])، أي: "جعلناك للناس إماماً يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون"([27]).

ولهذا فإنَّ الذين يفتقدون إلى الصلاح لا يستحقون الإمامة، فإبراهيم -عليه السلام- قال لربه بعدما بشره بالإمامة: { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي}([28])، على جهة الاستفهام أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فأخبره الله تعالى أنَّ فيهم عصاه ظالمين لا يستحقون الإمامة وقال: قال: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}([29])، والمراد في الآية هو: "النبوة أو الإمامة أو ولاية الأمر"([30]).

قال القرطبي في تفسيره: "قال لا ينال عهدي الظالمين" استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أنْ يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك وهو الذي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا ينازعوا الأمر أهلها فأمَّا أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا بأهله"([31]). وفي الآية إشارة إلى أنَّ الإمامة والعدل فيها أمانة وعهد والجور والظلم فيها خيانة لذلك العهد، وهذا يقال في كل ولاية شرعية يقول الشيخ رشید رضا في تفسيره لهذه الآية: "الولاية العامة الشرعية حق أهل الإيمان والعدل والله تعالى لن يعهد بإمامة أمورهم للظالمين فكل حاكم ظالم فهو ناقص لعهد الله تعالى "([32]).

كذلك لابد من وعي أنَّ وجود الحاكم الصالح ضرورة إسلامية لتدعيم الدولة الحاكمة بما أنزل الله، ولذلك نجد أنَّ الشريعة الإسلامية قد أوجبت تنصيبها بحيث توافر الإجماع على ذلك منذ عهد الصحابة([33]) بلا خلاف معتبر والأصل في وجوب تنصيب الإمام " أنَّ الصحابة لما اختلفوا في سقيفة بني ساعدة قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير دفعهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- وقالوا: إنَّ العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش أ ودارت بين الفريقين محاورات ومناظرات انتهت إلى مبايعة أبي بكر رضي الله عنه- خليفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلولا أنَّ الإمامة واجبة لما ساغت تلك المحاورة والمناظرة ولقال قائل: ليست في قريش ولا غيرهم "([34]).

لقد كان إجماع الصحابة على ضرورة تنصيب خليفة مستمدة من نصوص الكتاب والسنة الواضحة الدلالة، وحسمت الشريعة أمر الإمامة بكل وضوح فجعلت شروطاً في الإمامة: وهذه الشروط منها ما هي شروط صحة ومنها ما هي شروط كمال.

الشرط الأول: الإسلام

والإشارة إلية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}([35])، أي ذوي أمركم ومن ولوه من المسلمين}([36]).

وقال النووي -رحمة الله -: "أجمع العلماء على أنَّ الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنَّه لو طرأ عليه الكفر انعزل، قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها"([37]).

الشرط الثاني: العدالة

"العدالة هي التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل مع ترك المعاصي وكل ما يخل بالمروءة، وهي تثبت بالاستفاضة والشهرة "([38]).

الشرط الثالث: الذكورة

أجمع العلماء على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماماً([39])، قال الشنقيطي-رحمة اللَّه-: "من شروط الإمام الأعظم كونه ذكراً ولا خلاف في ذلك بين العلماء"([40])، ويدل له ما ثبت في صحيح البخاري وغيره منْ حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ. قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً "([41]).

الشرط الرابع: النسب

الخلافة في قريش، والناس تبع لقريش، ودليل ذلك ما جاء عَنْ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا الأمْرَ فِي قُرَيْشٍ، لا يُعَادِيهِمْ أحَدٌ إِلا كَبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أقَامُوا الدِّينَ»، وَجاء عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: «لا يَزَالُ هَذَا الأمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ»([42])، وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ»([43]).

الشرط الخامس: الحرية

فالمَملوكُ لا يَحِقُّ لَهُ التصَرُّفُ في شَيءٍ إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه، فلا وِلايةَ لَهُ على نَفسِه، فكَيفَ تَكونُ لَهُ الوِلايةُ على غَيرِه؟!

قال الغَزاليُّ: (لا تَنعَقِدُ الإمامةُ لرَقيقٍ؛ فإنَّ مَنصِبَ الإمامةِ يَستَدعي استِغراقَ الأوقاتِ في مُهمَّاتِ الخَلقِ، فكَيفَ يُنتَدَبُ لَها من هو كالمَفقودِ في حَقِّ نَفسِه المَوجودِ لمالِكٍ يَتَصَرَّفُ تَحتَ تَدبيرِه وتَسخيرِه؟! كيفَ وفي اشتِراطِ نَسَبِ قُرَيشٍ ما يَتَضَمَّنُ هذا الشَّرطَ؛ إذ لَيسَ يُتَصَوَّرَ الرِّقُّ في نَسَبِ قُرَيشٍ بحالٍ من الأحوالِ؟!)([44]) .

قال المهَلَّبُ: (أجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّه لا يَجوزُ أن تَكونَ الإمامةُ في العَبيدِ)([45]) .

وقال الشِّنقيطيُّ: (من شُروطِ الإمامِ الأعظَمِ كونُه حُرًّا، فلا يَجوزُ أن يَكونَ عَبدًا، ولا خِلافَ في هذا بَينَ العُلماءِ)([46]).

فإنْ قيلَ: قد ورَدَ في الحَديثِ الصَّحيحِ ما يَدُلُّ على إمامةِ العَبدِ؛ فعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اسمَعوا وأطيعوا وإنِ استُعمِلَ عليكم عَبدٌ حَبشيٌّ كأنَّ رَأسَهُ زَبيبةٌ))([47]) .

فالجوابُ على ذلك من أوجُهٍ:

الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه قد يُضرَبُ المَثَلُ بما لا يَقَعُ في الوُجودِ عادةً، فإطلاقُ العَبدِ الحَبشيِّ لأجلِ المُبالَغةِ في الأمرِ بالطَّاعةِ، وإن كان لا يُتَصَوَّرُ شَرعًا أن يَليَ ذلك.

قال الخطَّابيُّ: (قَولُه: وإنْ عَبدًا حَبشيًّا، يُريدُ به طاعةَ من ولاهُ الإمامُ عليكم وإن كان عَبدًا حَبشيًّا، وقد ثَبَتَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: الأئِمةُ من قُرَيشٍ([48])، وقد يُضرَبُ المَثَلُ في الشَّيءِ بما لا يَكادُ يَصِحُّ منه الوُجودُ، كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "من بنى للهِ مَسْجِدًا ولَو مِثلَ مَفْحَصِ قَطاةٍ([49])  بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ"([50])، وقَدْرُ مَفْحَصِ قَطاةٍ لا يَكونُ مَسجِدًا لشَخصٍ آدَميٍّ، وكَقَولِه: لَو سَرَقَت فاطِمةُ لقَطعْتُها([51]) وهيَ رِضوانُ اللهِ عليها وسَلامُه لا يُتَوَهَّمُ عليها السَّرِقةُ، وقال: لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسرِقُ البَيضةَ فتُقطَعُ يَدُه([52]) ونظائِرُ هذا في الكلام ِكثيرٌ)([53]).

الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المُرادَ باستِعمالِ العَبدِ الحَبشيِّ أن يَكونَ مَأمورًا من جِهةِ الإمامِ الأعظَمِ على بَعضِ البِلادِ.

قال ابنُ حَجَرٍ: (قيلَ: المُرادُ أنَّ الإمامَ الأعظَمَ إذا استَعمَلَ العَبدَ الحَبشيَّ على إمارةِ بَلَدٍ مَثَلًا وجَبَت طاعَتُه، ولَيسَ فيه أنَّ العَبدَ الحَبشيَّ يَكونُ هو الإمامَ الأعظَمَ)([54]).

وقال الشِّنقيطي عن هذا الوَجهِ: (هو أظهَرُها) ([55]).

الوَجهُ الثَّالِثُ: أن يَكونَ إطلاقُ اسمِ العَبدِ عليه لاتِّصافِه بذلك سابِقًا مَعَ أنَّه وقتَ التَّوليةِ حُرٌّ.

قال الشِّنقيطيُّ: (نَظيرُه إطلاقُ اليُتمِ على البالِغِ باعتِبارِ اتِّصافِه به سابِقًا في قَولِه تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ الآية)([56]).

الوَجهُ الرَّابِعُ: أنَّ المُرادَ بذلك المُتَغَلِّبُ لا المُختارُ، ففي هذه الحالةِ تَجِبُ طاعَتُه وإن كان عَبدًا حَبشيًّا، ولا يَجوزُ الخُروجُ عليه لمُجَرَّدِ عُبوديَّتِه، ويُؤَيِّدُ هذا الرَّأيَ لَفظُ: ((إن تَأمَّرَ عليكم...)) فلَفظَ ((تَأمَّر)) يَدُلُّ على أنَّه تَسَلَّطَ على الإمارةِ بنَفسِه، ولم يُؤمَّرْ من قِبَلِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ.

قال ابنُ حَجَرٍ: (لَو تَغلَّبَ عَبدٌ حَقيقةً بطَريقِ الشَّوكةِ فإنَّ طاعَتَهُ تَجِبُ إخمادًا للفِتنةِ ما لم يَأمُرْ بمَعصيةٍ)([57]).

الشرط السادس: القدرة وسلامة الحواس

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }([58])، قال الشنقيطي: "أي يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى نحو ذلك"([59])، قال مقاتل بن سليمان: … وكان طالوت مِن سِبْط بنيامين، وكان جسيمًا عالِمًا، وكان اسمه: شارل بن كيس، وبالعربية: طالوت بن قَيْس، وسُمِّي طالوت لطُولِه"([60]).

الشرط السابع: البلوغ:

لابد لمن يتولى أمر المسلمين أنْ يكون رجلاً، فالصبيان لا يليق أنْ يلوا الأمور العظام، والإجماع منعقد على جواز إمامة الصبي لعدم قدرته على القيام بأعباء الحكم([61]).

الشرط الثامن: العقل

لا نزاع بين أهل العلم في أنَّ المجنون أو المعتوه لا تجوز إمامته "لأن الإمامة تدبير أو العقل آلة التدبير، فإذا ذهب العقل ذهب التدبير([62]) ".

فلا تَنعَقِدُ وِلايةٌ لذاهِبِ عَقلٍ بجُنونٍ أو غَيرِه، قال الغَزاليُّ: (من صِفاتِ الأئِمةِ وشُروطِ الإمامةِ... الأُولَى البُلوغُ، فلا تَنعَقِدُ الإمامةُ لصَبيٍّ لم يَبلُغْ. الثَّانيةُ: العَقْلُ، فلا تَنعَقِدُ لمَجنونٍ؛ فإنَّ التكليفَ مِلاكُ الأمرِ وعِصامُه، ولا تَكليفَ على صَبيٍّ ومَجنونٍ)([63]).

الشرط التاسع: العلم المؤدي إلى الاجتهاد

وهو شرط عند علماء المسلمين في الإمام، بحيث أنْ يكون قاضيًا من قضاة المسلمين وحتى يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الملمات والحوادث.

وصرح الشاطبي -رحمه الله - بعدم صحة عقد الإمامة لمن لم ينل رتبة الاجتهاد والفتوى فقال: "إن العلماء نقلوا الاتفاق على أنَّ الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع"([64])، وذهب بعض العلماء إلى أنَّ هذا شرط كمال وليس صحة.

الشرط العاشر: الحنكة في أمور الحرب والسلم

 فينبغي لولي أمر المسلمين أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف في أمور الحرب مثل:

تدبير الجيوش، وسد الثغور وحماية بيضة المسلمين ومنازلة الأعداء وحسن الاستفادة من الأصدقاء، وكذا في أمور السلم بأن يملك زمام الأمة ويأخذ من ظالمها لمظلومها ولضعيفها من قويها، ويقيمها على الحق ويقيم بها الحق([65]).

وعد القاضي أبو يعلى من شرط الإمام: "أن يكون قیما بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود الا تلحقه رأفة في ذلك([66]).

قال القرطبي: " يَجُوزُ نَصْبُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ وَأَلَّا يَسْتَقِيمَ أَمْرُ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا نُصِبَ لِدَفْعِ الْعَدُوِّ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَسَدِّ الْخَلَلِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَقِسْمَتِهَا عَلَى أَهْلِهَا. فَإِذَا خِيفَ بِإِقَامَةِ الْأَفْضَلِ الْهَرَجُ وَالْفَسَادُ وَتَعْطِيلُ الْأُمُورِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يُنَصَّبُ الْإِمَامُ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا ظَاهِرًا فِي الْعُدُولِ عَنِ الْفَاضِلِ إِلَى الْمَفْضُولِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا عِلْمُ عُمَرَ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ وَقْتَ الشُّورَى بِأَنَّ السِّتَّةَ فِيهِمْ فَاضِلٌ وَمَفْضُولٌ"([67]).

 

ثالثاً: الرعية الصالحة

إنَّ من دعائم دولة الإسلام ومن أهمها الاهتمام بالرعية وتربيتها على نهج رب البرية لتصبح مؤمنة بربها مُصلحة في حياتها تتحمل إقامة الحياة الإسلامية على شريعة الله وتقوم بإلزام الحكام على الاستقامة على شريعة الله فالرعية هي التي تمد الحكام بشريعة الولاية وتوظيفهم في مهمة تحكيم شرع الله قال القرطبي: " إِقَامَةَ مَرَاسِمِ الدِّينِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ الْإِمَامُ يَنُوبُ عَنْهُمْ"([68]).

فالرعية الصالحة قيمة على مسلك الولاة بحيث إذا زاغوا عن السبيل ردتهم أو إذا اعوجوا قومتهم، فإن أبوا إلا الانحراف والابتعاد عن الطريق المستقيم خلعتهم وأبعدتهم، والأمة المسلمة ليست كأية أمة ولا ينبغي لشعوبها أنْ تكون رعيِّة كأية رعيِّة تساق فتنساق وتوجه فتوجه إنَّها أمَّة صاحبة رسالة وحاملة أمانة اختارها بين الأمم وأرسل فيها أفضل الرسل وأنزل إليها أحسن الكتب وخصها بأفضل شريعة وكلفها أسمى رسالة قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}([69])، قال ابن كثير: "وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ"([70]).


واجبات الرعية تجاه الولاة

أولاً: الطاعة

قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}([71])

قال القرطبي: "لَمَّا تَقَدَّمَ إِلَى الْوُلَاةِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَدَأَ بِهِمْ فَأَمَرَهُمْ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَأَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ، تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الرَّعِيَّةِ فَأَمَرَ بطاعته عز وجل أولا، وهي امتثال أو أمره وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، ثُمَّ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ ثَانِيًا فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، ثُمَّ بِطَاعَةِ الْأُمَرَاءِ ثَالِثًا، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ."([72]).

وفي المجتمع الإسلامية الشريعة فوق الجميع يخضع لها الحاكم والمحكوم ولهذا فإن طاعة الحاكم مقيدة دائماً بطاعة الله ورسوله كما قال رسول الله -صلى الله علية وسلم-: (لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ» "([73]).

ثانياً: النصرة:

فالواجب على الرعية نصرة الإمام الحاكم بما انزل الله ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين وجهاد العدو قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}([74]).

قال صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ "([75])، ومن نصرة الأمام ألا يهان، ومن معاضدته أنْ يحترم وأنْ يُكرم، فقوامته على الأمَّة وقياداتها لها لإعلاء كلمة الله تستوجب تبجيله وإجلاله وإكرامه تبجيلاً وإجلالاً وإكراماً لشرع الله سبحانه الذي ينافح ويدافع عنه، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن من إجلال الله تعالى: إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ "([76]).

ثالثاً: النصح

أوجب الإسلام على الرعية أنْ تُناصح ولاة أمرها لقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ» قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لِلَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ، وَأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَامَّتِهِمْ، أَوْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ "([77]).

وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يتناصحون رعاة ورعية - فهذا عمر - رضي الله عنه -درة الولاة أو فخر الأئمة في هذه الأمة يقول للرعية: " رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي "([78]).

رابعاً: التقويم

لقد استقر في مفهوم الصحابة أنَّ بقاء الأمَّة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها، فهذا أبو بكر -رضي الله عنه - عندما اختير للخلافة، قام في الصحابة خطيباً فقال: " أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، والضَّعيف فيكم عندي حتى أرجِّع عَلَيْهِ حقَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضعيف عندي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يَدْعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلا خذلهم اللَّهُ بالذُّل، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلَّا عمَّهم اللَّهُ بِالْبَلَاءِ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ، قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ "([79]).

إنَّ العلاقة بين الراعي والرعية كما حددت الشريعة معالمها هي علاقة التعاون والتعاضد مع النزاهة والتجرد فهي علاقة هدفها إعلاء كلمة الله تعالى وبسط العدل بين العباد، وإنَّ من أهم دعائم الدولة في الدنيا المتمثلة في نظام حكم شرعي أو حاکم صالح او رعية صالحة مُصلحة.

 

الدستور العام للدولة

إنَّ الدستور الإسلامي للدولة الصالحة يشتمل على قواعد ونُظم تُوضح نظام الحكم وتنظيم السلطات العامة وارتباط بعضها البعض، أو تحدید کل سلطة من السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية بكل دقة ووضوح، أو توضيح حقوق الأفراد على الدولة وواجباتهم نحوها، أو الحقوق بكل تفصيلاتها معنوية ومادية او كذلك الواجبات ولالتزامات ووضع القوانين المفصلة للدستور مثل: القانون المدني والقانون الجنائي أو القانون العام بحيث يكون ذلك كله مستمداً من المصادر المذكورة.

إنَّ هذه الدعامة عندما تقوم على ما ينبغي تقوى الدولة المسلمة أو تحمي أنظمة الحياة من عبث العابثين اللذين لا يدركون الحق في سياسة الرعية أو يدركونه لكنهم ينحرفون عنه، وجاءت هذه الشريعة لسد حاجة المسلمين من الأحكام فما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وقد بين لامته كل شيء، ولم يبقى للعلماء في ذلك من دور إلا إظهار حكم الله ورسوله وتفسير النصوص الشرعية وفق قواعد الإسلام الكلية"([80]).

 

 مصادر الدستور العام للدولة

إنَّ مصادر التشريع الإسلامي هي الأدلة الشرعية التي يستنبط منها الأحكام الشرعية، والأدلة (جمع دليل)، والدليل في اللغة: الهادي إلى أي شيء حسي أو معنوي.

وفي الاصطلاح: هو ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي عملي مطلقاً، ويمكن تعداد مصادر التشريع بالتالي:

1- القران الكريم

وهو المصدر الأول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشئون الحياة البشرية كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاماً قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}([81]).

2- السنة المطهرة

هي المصدر الثاني يستمد منه الدستور الإسلامي أصوله ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن في قيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأمة ومن خلال السنة يمكن التعرف على نوعية المجتمع المثالي الذي ينشده الإسلام، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}([82])، ويقول -جل وعلا-: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}([83])، ويقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}([84]).

3- إجماع الأمة

وخاصة الصحابة وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين، قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}([85]).

إن إجماع الصحابة - حكاماً ومحکومین - في عصور الخلافة الراشدة له معنی واحداً وهو الفهم الصحيح للكتاب أو الطريق السليم للعمل بالسنة، فهم الذين عاصروا عهد تنزيل الكتاب وعاشوا طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في إقامة حياة الناس عليه، فهم أفهم الناس لروح الدين وأعرف الناس بمقاصد الشرع، وأقدر الناس على التمييز بين الحق والباطل، ومن المستبعد بل من المحال أنْ يجتمعوا على باطل، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ"([86])، ولهذا كان إجماعهم حجة يسوغ أنْ تراعی وتوضع ضمن مصادر الدستور الإسلامية، وإجماع الأمة قد يكون على فهم نص "ويجوز أنْ ينعقد الإجماع عن اجتهاد وقیاس ويكون حجة"([87]).

4- مذهب العلماء والمجتهدين

{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}([88])، قال القرطبي: "وَالِاسْتِنْبَاطُ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِخْرَاجُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ إِذَا عُدِمَ النص والإجماع "([89]) لأنَّ العلماء في أمة محمد -صلی الله عليه وسلم- لهم أهليتهم في أن يسموا "أهل الذكر، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}([90])، وعلماء القرون الأولى هم ولا شك المقدمون في هذا المضمار، ثم يقدم العالم كلما كان أكثر قرباً من علماء السلف في الهدى والسمت وعمق الفهم وغزارة العلم فمذاهب العلماء المجتهدين هي رابع مصادر الدستور الإسلامي([91]).

إنَّ هذه الدعائم هي التي قامت عليها الدولة الإسلامية وميزتها عن غيرها فتمثلت بالقوة والضعف، والسلامة والمرض، لكنها لم ولن تتنازل أبداً عن سر بقائها وهو دستورها الوحيد المتمثل في الكتاب والسنة.

إنَّ دولة الإسلام تمثل بين سائر الدول الصالحة القائمة على العقيدة والشريعة ولا بد لدولة الصلاح أنْ تكون أركانها ودعائمها صالحة كلها، وهذه الدعائم المتمثلة في نظام حكم شرعي ورعية صالحة ملتزمة بشرع الله، وحاكم صالح يسهر ويجتهد من أجل تحکیم شرع الله تعالى "([92]).

الخاتمة

لقد خلق الله -سبحانه وتعالى- الخلق وجعل لهم أحكامًا وقوانين تحكمهم وتضبط حياتهم، وهذه من حكمتهِ – سبحانه وتعالى-، وإحسانه لخلقه وتكريمه لهم، ومن حكمته -تعالى- أنّه جعل هذه الأحكام شاملةً لجميع جوانب الحياة، فهي منظِّمة لسلوك الفرد في المجتمع، فلم يتركهم هَمَلًا مشتّتين، بل كرّمهم وأنعم عليهم، وأرسل فيهم العديد من الرسل والأنبياء -عليهم السلام- ليُبيّنوا أحكامه للناس ويهدوهم إليه -سبحانه-.

ولا بد للمسلم أنْ يتعرف على أهمية الحكم الشرعي الذي انزله -سبحانه وتعالى- على عباده ليحكموه بينهم، ويجعلونه دستور حياتهم ومعاشهم، يرجعون إليه عن الخلاف، لإنّه لم يترك شاردة ولا واردة إلا وتكلم عنها وبين ماهيتها وأحكامها وأمر الناس أنْ يأخذوا بها، فقد تكلم عن العلاقات الاسرية من حيث علاقة الولد بوالديه، وعلاقة الإباء مع الأبناء، حتى الرضع من الأبناء لم يترك ذكرهم وحقوقهم من الرضاعة، وعلاقة الناس بجيرانهم وحفظ حقوق الجار، وتكلم عن المعاملات والعقود كالزواج والبيوع وغيرها، وتكلم عن الحدود والقصاص كل ما يخص الحكم الجنائي، وذكر دقائق التعامل مع الكفار في السلم والحرب، تلكم في العلم وأهميته، وذكر تفاصيل عن الطب والهندسة والفلك والامراض النفسية وكيفية علاجها، ثم الزم عباده بالأخذ بها، قال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}([93]) أي : إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"([94]).

ومن هنا تكمن أهمية الحكم الشرعي؛ من حيث أنّه يضيء للمسلم درب العبادة، ويصحح له العمل، فينبغي عليه أنْ يعرف كيف يتطهر، وكيف يصلي، وكيف يصوم، وكيف يزكي إنْ وجبت عليه الزكاة، وكيف يحجّ إنْ استطاع إليه سبيلاً، وغير ذلك من أحكامٍ مهمَّةٍ يحتاج إليها في مختلف شؤونه.

 

هذا هو القسم الأول من هذا البحث نضدته على عجالة فما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من نقص أو سهو أو نسيان فمن نفسي والشيطان وصلى اللهم على خير الورى محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


وكتبه

يوسف طه السعيد

 

 

 

 

 

 



([1]) [سورة البقرة:179]

([2]) ينظر: "لسان العرب" لابن منظور : ۳ / ۲۷۰.

([3]) ينظر : " المصباح المنير " الواحدي: ۱ / ۹۰.

 

([4]) الأحكام السلطانية لماوردي: 1/ 3.

([5]) ينظر : الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: 8 /6142.

([6]) ينظر: دراسات في الفكر العربي الإسلامي لــ واثل الزرد : ۱۳۸.

 

([7]) ينظر : المعجم المفهرس للتراكيب المتشابهة لفظا في القرآن الكريم : ۱۰.

([8]) ينظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي: عبد العزيز مصطفى: ۲ / 5۳۷.

([9]) [ النساء : 64 ]

([10]) ينظر: تفسير التحرير والتنوير: الطاهر بن عاشور: 1/ ۷۰۷.

([11]) [ يوسف : 40 ]

([12]) ينظر: تفسير المنار : رشيد رضا: 12/ ۳۰۹.

([13]) ينظر: في ظلال القرآن: سيد قطب: 4 / ۱۹۹۱.

([14]) [ النساء : ۱۰5 ].

([15]) [ الزمر : ۲-۳ ].

([16]) ينظر : الحكم والتحاكم في خطاب الوحي : ۱/ ۳۳ .

([17]) [ الحديد : ۲5 ]

([18]) ينظر: تفسير ابن كثير: 4/ ۳۱5 .

([19]) [ المائدة : ۷ ].

([20]) [ المائدة : 50 ].

([21]) ينظر: تفسير ابن كثير : 4/ ۲۳۹.

([22]) [ الذاريات 5۲ ].

([23]) ينظر : تفسير ابن كثير : 4/ ۲۳۹.

([24]) ينظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى : ۲4.

([25]) ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية : ۵ / ۱۸۹۵؛ ومعجم مقاييس اللغة: ۱ / ۲۸؛ وتاج العروس من جواهر القاموس: ۲۲4/۳۱.

([26]) [ البقرة من الآية : ۱۲4 ].

([27]) ينظر: تفسير القرطبي: 2/ ۱۰۷.

([28]) [ البقرة : ۱۲4 ].

([29]) [ البقرة : ۱۲4 ].

([30]) ينظر : تفسير الطبري : 2/۲۳.

([31]) ينظر : تفسير القرطبي : ۲/ ۱۰۸.

([32]) ينظر : تفسير المنار : 1/ ۱۹۳.

([33]) ينظر : تفسير الطبري : ۸/ 503 تحقيق أحمد شاكر.

([34]) ينظر: الأحكام السلطانية للفراء : ۱۹.

([35]) [النساء : 59].

([36]) ينظر : تفسير الطبري : ۸/ 503 تحقيق أحمد شاكر .

([37]) ينظر : شرح صحيح مسلم للنووي : 12/ ۲۲۹.

([38]) ينظر : الأحكام السلطانية للفراء : 4.

([39]) ينظر: مراتب الاجماع: 126.

([40]) ينظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: للشنقيطي: 1/ 26.

([41]) رواه البخاري (4425)، ورواه النسائي في " السنن " (8/227) وبوب عليه بقوله : "النهي عن استعمال النساء في الحكم.

([42])  متفق عليه: أخرجه البخاري.: (7140)، ومسلم (1820). 

([43])  متفق عليه: أخرجه البخاري.: (3495)، ومسلم: (3495).

([44]) يُنظر: فضائح الباطنية: 180.

([45]) يُنظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال: 8/215.

([46]) يُنظر: أضواء البيان: للشنقيطي: 1/27.

([47]) رواه البخاري (7142).

([48]) أخرجه أحمد (12900)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5942).

([49]) قال المناوي: "حمله الأكثر على المبالغة لأنَّ مفحَصَها بقَدرِ ما تحفِرُه (لبيضها) وترقد عليه، وقَدْرُه لا يكفي للصَّلاةِ فيه". ينظر: فيض القدير: 6/96.

([50]) أخرجه ابن ماجه (738)، وابن خزيمة (1292)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (1557).

([51])أخرجه البخاري (3733)، ومسلم (1688)، و(1689).

([52]) أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687).

([53]) يُنظر: معالم السنن: 4/300.

([54]) يُنظر: فتح الباري: 13/122.

([55]) يُنظر: أضواء البيان: 1/27.

([56]) يُنظر: أضواء البيان: 1/27.

([57]) يُنظر: فتح الباري: 13/122.

([58]) [البقرة: 247]

([59]) يُنظر: أضواء البيان في إيضاح القران بالقران: للشنقيطي: 1/28.

([60]) تفسير مقاتل بن سليمان 1/ 206.

([61]) ينظر: تفسير القرطبي: 1/ 170.

([62]) ينظر: تفسير القرطبي: 1/ 170.

([63]) ينظر: فضائح الباطنية: 180.

([64]) ينظر: تفسير القرطبي:1/270؛ والاعتصام للشاطبي: 2/ 126.

([65]) ينظر: تفسير القرطبي:1/270

([66]) ينظر : الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ۲۰.

([67]) ينظر : تفسير القرطبي: 1/ ۲۷۱.

([68]) ينظر : تفسير القرطبي: 12/ 161.

([69]) [ آل عمران: ۱۱۰]

([70]) ينظر: تفسير القران العظيم: لابن كثير: 2/ 93.

([71]) [النساء: 59].

([72]) ينظر: تفسير القرطبي: 5/ 259.

([73]) أخرجه: البخاري في صحيحه: (7257).

([74]) [ المائدة: ۲].

([75]) أخرجه مسلم: (۱۸52).

([76]) أخرجه أبو داود: (4843).

([77]) أخرجه: البخاري: (4944).

([78]) أورده الإمام الدارمي في مقدمة سننه: (675).

([79]) ينظر : البداية والنهاية لابن كثير: 6/ 333.

([80]) ينظر: تطبيق الشريعة الإسلامية: د. عبد اللَّه الطريقي: 59.

([81]) [ النساء: ۱05]

([82]) [الحشر:7]

([83]) [النساء:80]

([84]) [النساء:59].

([85]) [النساء:115]

([86]) أخرجه ابن ماجة : (۳۹5۰).

([87]) ينظر : روضة الناظر وجنة المناظر: ۱/ 438.

([88]) [ النساء: ۸۳].

([89]) ينظر: تفسير القرطبي: 2/ 292.

([90]) [ النحل: 43].

([91]) ينظر : الحكم والتحاكم في خطاب الوحي: ۲/ 562.

([92]) ينظر : فقه النصر والتمكين: د. علي محمد الصلابي: ۲/ ۱۷.

([93]) [النساء:65]

([94]) ينظر: تفسير ابن كثير: 2/ 347. الحديث أخرجه ابن ابي عاصم في السنة: 1/ 45 (15)، وهو ضعيف.

التصنيفات

شارك المقال لتنفع به غيرك

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات

224647537720518772

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث