iqraaPostsStyle6/recent/3/{"cat": false}

سلسلة تحذير الأنام (7) التحذير من مجالسة أهل البدع

الكاتب: يوسف طه السعيدتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق

 

التحذير من مجالسة أهل البدع

الحمد لله ربِّ العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، والصلاة والسلام الطيبان الأكملان على محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:

معلوم أن تكرار الحديث بموضوع معين مدعاة لأهميته، ولا يخفى على كبير علم المطلع تحذير علماء أهل السنة قديماً من مجالسة أهل البدع، وإنه قد يضجر البعض من تكرار النهي عن مجالسة أهل الباطل وأرباب البدع ودعاة الإلحاد والشاكِّين في دينهم؛ لكن العاقل يعرف أنه ما كثُر التحذير من أمر إلا لخطورته، وما كثُر الحثُّ على شيء إلا لأهميته، وإن أعظم أمر كثُر التحذير منه هو الشرك وغلق ما يوصل إليه، وأعظم أمر أُمِرْنا به هو التوحيد والحثُّ على ما يُوصِل إليه.

ونعلم أيضاً أن عامة الذنوب منبعها الشبهات أو الشهوات، وكان العلماء قد قرروا أن علاج الشبهات العلم، وعلاج الشهوات الصبر، وأعظم الشبهات في زماننا هي إما عقل يُسلَّط على المسلمين فيُوصِلهم للكفر أو مبتدعة يتلاعبون بدينهم فيُوصِلون الناس للشرك.

ولما علم أهل العلم خطر أهل البدع على المجتمع الإسلامي، حذروا منه أشد التحذير، وبالغوا في ذلك، وقد كان النهي قديمًا عن مجالسة أهل الرأي ومخالطتهم والسماع منهم أمرًا معلومًا لا يُخالِف فيه من أهل السنة أحدٌ، فلجئوا إلى أدوات للتحذير من خطرهم وسوء صنيعهم، ومن هذه الأدوات أداة الهجر، فقد صار معلوم لأهل المعرفة أن الهجر حكمٌ شرعي متفرع عن أصل عظيم من أصول التوحيد وهو الولاء والبراء والحب والبغض في الله، وهما من أعلى مراتب الإيمان وأوثق عراه. أخرج الإمام أحمد في مسنده من طريق معاوية بن سويد بن مقرّن عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: " كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ؟ قَالُوا: الصَّلَاةُ. قَالَ: حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا. قَالُوا: الزَّكَاةُ. قَالَ: حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا. قَالُوا: صِيَامُ رَمَضَانَ. قَالَ: حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ. قَالُوا: الْحَجُّ. قَالَ: حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ. قَالُوا: الْجِهَادُ. قَالَ: حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ. قَالَ: إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ وَتُبْغِضَ فِي اللهِ"([1]).

قال سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى:

وما الدين إلاّ الحب والبغض والولا

 

كذاك البرا من كل غاوٍ وآثمِ

وقد دلت على هذا النصوص الشرعية المستفاضة من الكتاب والسنة على ترك مجالسة أهل البدع، منها قول الله سبحانه وتعالى ذكره: {وَقَدْ نَزَّ لَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}([2])  قال الإمام البغوي في تفسير هذه الآية: قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: دخل في هذه الآية كلُّ مُحْدِث في الدين وكلُّ مبتدع إلى يوم القيامة. انتهى([3])، وقال ابن جرير الطبري رحمه الله: وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند خوضهم في باطلهم([4]).

وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}([5])، قال الإمام القرطبي: استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم. قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله، لقوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} وهذا الكلام (للقرطبي): وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. انتهى([6])

وأنزل الألوسي هذه الآية على أهل البدع في تفسيرها، فقال: وحكى الكواشي عن سهل أنه قال: من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعاً سلبه الله تعالى حلاوة السنن، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضاً منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى، ومن ضحك إلى مبتدع نز ع الله تعالى نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب انتهى([7]).

وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}([8])، قال الإمام الشوكاني في تفسير هذه الآية: "الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له".. إلى أن قال: "وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة، الذين يحرّفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردّون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقلّ الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير. وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزّهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر. وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه، وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها، علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرّمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدّة عمره ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر([9]).

وقال سبحانه و تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}([10])، قال القرطبي: خرّج أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} إلى قوله: {فاسقون} ثم قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم) وخرجه الترمذي أيضاً([11])؛ ثم قال وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بتركهم وهجرانهم". انتهى كلامه رحمه الله([12]).

ولا يخفى على المسلم أن البدع من أعظم الجرم وأقبحه بعد الشرك والكفر، قال الإمام مالك: "لو أن رجلاً ركب الكبائر كلها بعد أن لا يشرك بالله، ثم تخلى عن هذه الأهواء والبدع، دخل الجنة"([13]). وقال الإمام سفيان الثوري: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يُتاب منها، وأما البدعة فلا يتاب منها"([14])، وقال الإمام الشافعي: "لأن يلقى الله المرء بكل ذنب خلا الشرك بالله، خيرٌ له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء"([15]).

وأما الأدلة من السنة فهي كثير أيضاً، منها ما نقله الإمام أبو داود في سننه تحت باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، وساق فيه أحاديث منها قصة كعب بن مالك والذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك فذكر قول كعب بن مالك: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا أيّها الثلاثة حتى إذا طال عليّ تسوّرت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمّي فسلّمت عليه فوالله ما رد عليّ السلام"([16]).

وقال الترمذي أيضاً: باب ترك السلام على أهل الأهواء، وذكر فيه حديث عمّار بن ياسر قال: "قدمت على أهلي وقد تشققت يداي فخلّقوني بزعفران فغدوت على النبي صلى الله عليه وسلّم فسلّمت عليه فلم يرد عليّ السلام وقال: "اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ"([17]).

وذكر أيضاً هجران رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأم المؤمنين زينب من حديث عائشة رضي الله عنا قالت: "اعتلّ بعيرٌ لصفية بنت حييّ وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزينب: (أعطيها بعيراً)، فقالت: "أنا أعطي تلك اليهودية"، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر.([18]) وأمثاله كثير في الصحاح والسنن.

وعلى سنته -صلى الله عليه وسلّم- في ذلك مضى صحابته الكرام -رضي الله عنهم- أجمعين، فها هو أمير المؤمنين عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلْدَ صَبِيغًا التَّمِيمِيَّ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ: أَنْ يُقِيمُوهُ حَتَّى يُنَادِي عَلَى نَفْسِهِ، وَحَرَمَهُ عَطَاءَهُ، وَأَمَرَ بِهِجْرَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعًا فِي النَّاسِ"([19])، وبعث إلى أهل البصرة: أن لا تجالسوه، فلو جاء إلى حلقة ما هي قاموا وتركوه.

وهجر عبد الله ابناً له حتى مات.([20]) روى الإمام أحمد في مسنده عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: " لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلٌ أَهْلَهُ أَنْ يَأْتُوا الْمَسَاجِدَ فَقَالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: فَإِنَّا نَمْنَعُهُنَّ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: فَمَا كَلَّمَهُ عَبْدُ اللهِ حَتَّى مَاتَ([21])، والله لا يكون ذلك من اليسر بمكان إلاّ عند من أحب لله وحده وأبغض لله وحده وكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}([22]).

عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ، قَالَ: فَنَهَاهُ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ وَقَالَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا، وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ. قَالَ: فَعَادَ فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ تَخْذِفُ! لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا"([23]).

وهذا عبادة بن الصامت وأبو الدرداء، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيم هذه الأمة، وأبو سعيد الخدري يظعنون عن أوطانهم، وينتقلون عن بلدانهم، ويظهرون الهجرة لإخوانهم؛ لأجل من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوقف عن استماع سنته، فيا ليت شعري كيف حالنا عند الله عز وجل، ونحن نلقى أهل الزيغ في صباحنا والمساء يستهزئون بآيات الله، ويعاندون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حائدين عنها وملحدين فيها؟ سلمنا الله وإياكم من الز يغ والزلل. انتهى([24]).

قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله تعالى- في جامع العلوم والحكم: "فإنَّ تحقق القلب بمعنى لا إله إلا الله وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تألُّهُ الله وحده، إجلالاً، وهيبةً، ومخافةً، ومحبةً، ورجاءً، وتعظيماً، وتوكلاً، ويمتلئ بذلك، وينتفي عنه تألُّه ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبق فيه محبة، ولا إرادة، ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبه ويطلبه، فينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها، ووسواس الشيطان، فمن أحب شيئا وأطاعه، وأحب عليه وأبغض عليه، فهو إلهه، فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي إلا له، فالله إلهه حقا، ومن أحب لهواه، وأبغض له، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه، كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) .. إلى أن قال: "فتبين بهذا أنه لا يصح تحقيق معنى قول: لا إله إلا الله، إلاَّ لمن لم يكن في قلبه إصرار على محبة ما يكرهه الله، ولا على إرادة ما لا يُريده الله، ومتى كان في القلب شيء من ذلك، كان ذلك نقصاً في التوحيد، وهو من نوع الشرك الخفي" انتهى كلامه رحمه الله([25]). وكره ابن سيرين أن يسمع آية من المبتدعة فقال: كرهت أن يقرأا آيةً فيُحرِّفانها ويقرّ ذلك في قلبي([26]). قال الشيخ عبد الكريم الحميد حفظه الله تعالى: "وقد جمع بعض أهل العلم أسماء من كان يزجر بالهجر من الصحابة والتابعين فمن بعدهم فذكر منهم: عائشة، وحفصة، وحفص بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وطاووسا، ووهب بن منبه، والحسن البصري، وابن سيرين، وسفيان الثوري، وخلقاً ... إلى أن ختم بالنووي فإنه كان يزجر بالهجر ويراه، وقرره في شرح صحيح مسلم وغيره أوضح تقرير واحتج له بعدة أدلة([27]).

فكان السلف يحذرون أشد التحذير من مجالسة أهل البدع وشددوا في ذلك ومنعوه أشد المنع، خوفاً من تسرب البدع إلى قلوب البسطاء فيُضلوهم بضلالهم، قال ابن مسعود لما ذكر ما يُحدِثه الناس من البدع: يَهْرَبُ بِقَلْبِهِ وَدِينِهِ، لَا يُجَالِسُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ"([28])، وصدق -رضي الله عنه- إذ أن الشبهات تتسلل إلى القلوب تتسلل الافعى إلى عش الفراخ لتفتك بها. قيل لابن عمر: إن نجدة يقول كذا وكذا، فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه شيء"([29])، ولك أنْ تتخيل أنَّ ابن عمر جعل لا يسمع منه خوفاً من أنْ يقع في قلبه من بدع القوم وضلالاتهم وما أحدثوه في الدين، فما عسى المسكين منا ما يقول؟

وقال ابن المسيب: إذا تكلم الناس في ربهم وفي الملائكة ظهر لهم الشيطان فقدَّمهم إلى عبادة الأوثان"([30]).

 

جمع وترتيب وتعليق

يوسف طه السعيد

 



([1]) أخرجه أحمد في "مسنده": 8 / 4219 (18821)، والطيالسي في "مسنده": 2 / 110 (783)، وابن أبي شيبة في "مصنفه": 15 / 620 (31059).

([2]) سورة النساء، الآية:140.

([3]) انظر: " تفسير البغوي": 2/ 301.

([4]) انظر: "تفسير الطبري": 9/ 321. 

([5]) سورة المجادلة، الآية:22.

([6]) انظر: القرطبي": 17/ 308.

([7]) انظر: "الألوسي": 20/ 402.

([8]) سورة الأنعام، الآية:68.

([9]) انظر: "فتح القدير": 2/ 122.

([10]) سورة المجادلة، الآية:78 – 79.

([11]) أخرجه الترمذي في "جامعه": 5 / 138 (3047)، 5 / 140 (3048).

([12]) انظر: "تفسير القرطبي": 6/ 253 – 254.

([13]) انظر: "حلية الأولياء": 6/ 325.

([14]) انظر: "حلية الأولياء": 7/ 26.

([15]) انظر: "ابن عساكر: 51/ 309.

([16]) أخرجه أبو داود في "سننه": 2/(3984).

([17]) أخرجه أبو داود في "سننه": 4/327 (4601)

([18]) أبو داود (3986)

([19]) انظر: "الشريعة" للآجري: 5/ 2554.

([20]) أبو داود (4270)

([21]) أحمد (4696)

([22]) سورة المجادلة، الآية: 22.

([23]) أخرجه البخاري في "صحيحه": 6 / 136 (4841)، (5479)، (6220)، ومسلم في "صحيحه": 6 / 71 (1954)، (1954)، (1954) ، (1954)، (1954).

([24]) انظر: "الإبانة الكبرى": 1/ 59.

([25]) انظر: "جامع العلوم والحكم": 1/ 524.

([26]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (186) .

([27]) انظر: " إمعان النظر": 15. وانظر تفاصيل ما سبق من كتاب: " فصل المقال في هجر أهل البدع والضلال" لأبي عبد الرحمن نور الدين بيرم"، فقد وُفق في هذا الله جزاه الله خيراً.

([28]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (186) .

([29]) المصدر السابق: (189)، وقريب منه في السنة لعبدالله بن أحمد: (1498).

([30]) المصدر السابق: (187).

التصنيفات

شارك المقال لتنفع به غيرك

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات

224647537720518772

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث