بيان أهمية القرائن ودورها في كشف العلة
مع بيان لبعض أنواعها
تقديم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد
النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على هديه إلى يوم الدين. أما بعد
فلما علمنا من البحوث السابقة على أهمية علم الحديث عامة وعلم العلل
خاصة وأن علم العلل هو الدرع والحصن الذي عَمُرَ على جنباته صحيح الرواية من
سقيمها، وذكرنا بعض أنواع العلل، ومظان وجود العلة، وكشف أسبابها كــ اختلاف
الارسال والوصل، والرفع والوقف، والاضطراب، وزيادة الثقة، والشاذ، والمنكر،
والمقلوب، والمزيد في متصل الأسانيد، والمصحف والمحرف وغيرها، كما ذكرنا في بحث
"اعلال الحديث بخطأ الراوي".
إنَّ الباعث في اعلالهم للمرويات التي ظاهر أسانيدها الصحة هو
"الغرابة"، وان سبب هذا الاستغراب هو إمِّا المخالفة، او التفرد، قال
الإمام أحمد: "إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا حديث غريب أو فائدة؛ فاعلم
أنَّه خطأ أو دخل حديث في حديث ... "، وقال: "شر الحديث الغرائب التي لا
يعمل بها ولا يعتمد عليها "([1])، وقال يحيى بن معين: " ما أكذب الغرائب "([2]).
ثم بينا طرق معرفة الحديث المعل إجمالاً وهي:
-
جمع طرق الحديث.
-
تحديد مدار الاسناد.
-
النظر في اختلاف رواته.
-
الموازنة بين ضبطهم وإتقانهم.
-
الترجيح بين الرواة على أسس علمية، وقواعد مستنبطة من صنيع علماء
العلل السابقين.
ولأهمية ذلك لحق بهذا العلم مجموعة من العلوم لا ينفك عنها وهو ما
يُسمى عند أصحاب هذا الفن بــ "قرائن الترجيح" ولعلي سأذكر بإيجاز عن
ماهية القرائن وأنواعها مع ضرب الأمثلة إن احتجنا لذلك، والله الموفق وهو هادي
السبيل.
القرائن
أو القرينة
القرائن في اللغة: جمع قرينة، وهي من الفعل قرن بمعنى جمع، تقول قرنت
بين الحج والعمرة ومنه ما جاء في الحديث عن جابر أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، فَطَافَ لَهُمَا
طَوَافًا وَاحِدًا. "([3]):أي جمع بينهما بإحرام واحد، وكل ما يُقرن به بین شيئين فهو القِران،
لذا يقال لعقد الزواج عقد قِران ([4]).
وقيل: " الْقَرِينَةُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَرَنَ
الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، أَيْ شَدَّهُ إِلَيْهِ وَوَصَلَهُ بِهِ، كَجَمْعِ
الْبَعِيرَيْنِ فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَكَالْقَرْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ،
أَوْ كَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ أَوِ اللُّقْمَتَيْنِ عِنْدَ الأْكْل،
وَتَأْتِي الْمُقَارَنَةُ بِمَعْنَى الْمُرَافَقَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، وَمِنْهُ
مَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجَةِ قَرِينَةٌ، وَعَلَى الزَّوْجِ قَرِينٌ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَدُل عَلَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ
كَوْنِهِ صَرِيحًا "([5]).
وقيل أنَّ القرينة بمعنى الامارة، وهي ما يلزم من العلم به الظن
بوجود المدلول كالغيم بالنسبة الى المطر، فإنَّه يلزم من العلم به الظن بوجود
المطر.
مشرُوعيَّةُ
القَرينَةِ واستخدامها
استخدام
القرينة
استخدم العلماء قديماً وحديثاً القرينة في أحكامهم فوردت في كتب
التفسير والحديث والفقه وغيرها، وقد استخدم لفظها والعمل بها الخلفاء الراشدون في
القضايا التي عُرضت عليهم، ومنه ما حكم به عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعثمان -رضي
الله عنهم- "ولا يُعلم لهم مخالف" بوجوب الحد على من وجدت فيه رائحة
الخمر، أو قاءها، وذلك اعتمادا على القرينة الظاهرة، وهو مذهب مالك -رحمه الله- ،
ومنه ما قضی به عمر -رضي الله عنه- برجم المرأة إذا ظهر لها حمل ولا زوج لها، وقد
قال بذلك مالك وأحمد بن حنبل اعتماداً على القرينة الظاهرة "([6]).
قرائن الترجيح ودورها في كشف العلة
بعد التتبع والاستقراء توصل أهل العلم الى أنَّ القرائن في علم
الحديث كثيرة، فبينوا أقسامها وأنواعها مع بيان درجة تأثير كل قسم من هذه القرائن،
يقول الدكتور ماهر الفحل: "فمن خلال الاستقراء تبين أنَّها تنقسم إلى قسمين:
الأول: قرائن أساسية: وهذه القرائن تكون في غالب الأحوال مرجعاً
للتحاكم، إذا اختلفت الرواة على الراوي .... حتى قال: أما القرائن الفرعية: فهو ما
عقده الخطيب في باب (القول في ترجيح الأخبار) الذي ذكر فيه مرجحات الأخبار"([7]).
وكما ذكرنا سابقاً من أنَّ قرائن الترجيح كثيرة بينها العلماء من
خلال التبع والاستقراء، نرى الحاجة لازمة لذكر بعضها لا على سبيل الحصر إنَّما
للتبين والايضاح وكيفية تعامل الأئمة معها، ومن هذا الانواع:
العــدد
قرينة العدد مهمة جداً في ترجيح الروايات ويمكن أنْ يُقال أنَّها من
أهمها وذلك الاستخدام جيل عصر الرواية لها وتصديرها في الحكم على الأحاديث، قال
الشافعي -رحمه الله-: "والعدد أولى بالحفظ من الواحد "([8])، وقال أيضاً: "إنِّما ندع تثبیت ما خالفه فيه غيره مما هو أكثر
منه عدداً، فأمَّا ما لم يكن يخالفه فيه أحد وهو لفظ غير الَّلفظ الذي خولف فيه وأمر
غير الأمر الذي خولف، فنثبته إذا لم يكن فيه مخالف"([9])، وقال يحيى بن سعيد القطان: "كنا نظنُّ أنَّ الثوري وهم فيه
لكثرة من خالفه"([10]).
الحفظ والإتقان
وهي خاصية يتفاوت فيها الناس، وقد استخدمها أهل الصنعة الحديثة في
الحكم على الأحاديث وجعلوها قرينة تُقدم لأجلها رواية الحافظ المتقن على غيره، قال
الإمام أحمد: "كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئاً إلا حفظه، وقُرِئ
عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها"([11])، فكانت طبقة جيل عصر الرواية أضبط الناس حفظاً وإتقاناً، ولأجل ذلك
لا يقدم على قولهم قول في الترجيح.
إجماع المحدثين
إذا أجمع أهل الحديث على حكم
معين فهذا الحكم لا يُقدم عليه حكم آخر، كأن يجمعوا على تضعيف راوي، أو تقويته
وغير ذلك، قال أبو حاتم: "واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة"([12]).
ومثاله ما حكى مسلم في
كتاب التمييز أجماع اهل المعرفة على أنَّ حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وحكى
ذلك عن يحيى القطان وابن معين وأحمد وغيرهم من أهل المعرفة"، فقال: "هَذَا اجْتِمَاع أهل الحَدِيث وَمن عُلَمَائهمْ على أَن أثبت النَّاس فِي
ثَابت الْبنانِيّ حَمَّاد بن سَلمَة"([13]).
وقال
ابن أبي حاتم في المراسيل: "قَالَ أَبِي الزُّهْرِيُّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ
أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ شَيْئًا لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْرِكْهُ قَدْ أَدْرَكَهُ
وَأَدْرَكَ مَنْ هُوَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَلَكِنْ لَا يَثْبُتْ لَهُ السَّمَاعُ
مِنْهُ كَمَا أَنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ لَا يَثْبُتُ لَهُ السَّمَاعُ مِنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَدْ سَمِعَ مَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ
غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَاتِّفَاقُ أَهْلِ
الْحَدِيثِ عَلَى شَيءٍ يَكُونُ حُجَّةً"([14]).
وقال
أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: "أجمع
عَامَّة أهل الْعلم على الِاحْتِجَاج بِحَدِيث عِكْرِمَة وَاتفقَ على ذَلِك
رُؤَسَاء أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ من أهل عصرنا مِنْهُم أَحْمد بن حَنْبَل
وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو ثَوْر وَيحيى بن معِين وَلَقَد سَأَلت إِسْحَاق
عَن الِاحْتِجَاج بحَديثه فَقَالَ عِكْرِمَة عندنَا إِمَام أهل الدُّنْيَا"([15]).
وعلى
ما سبق يتبين لنا أنَّ إجماع أهل الحديث على حكم معين يكون حجة.
ملازمة الشيوخ
وهي من القرائن المهمة التي يمكن من أجلها يحكم على الحديث، فهناك من
الرواة من لازم شيخة وأكثر عنه وضبط ما عنده بخلاف غيره وهذا يعود إلى عدة قرائن،
منها قوة الحفظ أو الكتابة أو طول الملازمة وقِدَمِهَا، ونحو ذلك من الأسباب، وقد
استخدم العلماء هذه القرينة بقولهم فلان أثبت الناس في فلان، أو أحفظ فيه وغيرها
نحو هذه الألفاظ، ومثاله ما نقلناه سابقاً من كلام مسلم في كتاب التمييز أجماع اهل
المعرفة على أنَّ حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، ونقله ذلك عن يحيى القطان وابن
معين وأحمد وغيرهم من أهل المعرفة"، فقال: "هَذَا اجْتِمَاع أهل
الحَدِيث وَمن عُلَمَائهمْ على أَن أثبت النَّاس فِي ثَابت الْبنانِيّ حَمَّاد بن
سَلمَة"([16]).
قال ابن القيم: "وَإِنَّمَا هَذِه مَسْأَلَة أُخْرَى غَيرهَا
وَهِي الِاحْتِجَاج بِالرجلِ فِيمَا رَوَاهُ عَن بعض الشُّيُوخ وَترك الِاحْتِجَاج
بِهِ بِعَيْنِه فِيمَا رَوَاهُ عَن آخر، وَهَذَا كإسماعيل بن عَيَّاش فَإِنَّهُ
عِنْد أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن حجه فِي الشاميين أهل بَلَده وَغير حجه فِيمَا
رَوَاهُ عَن الْحِجَازِيِّينَ والعراقيين وَغير أهل بَلَده، وَمثل هَذَا تَضْعِيف
[من ضعف] قبيصَة فِي سُفْيَان الثَّوْريّ وَاحْتج بِهِ فِي غَيره كَمَا فعل أَبُو
عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ.
وَهَذِه طَريقَة الحذاق من أَصْحَاب الحَدِيث أطباء علله يحتجون
بِحَدِيث الشَّخْص عَمَّن هُوَ مَعْرُوف بالرواية عَنهُ وبحفظ حَدِيثه وإتقانه
وملازمته لَهُ واعتنائه بحَديثه ومتابعة غَيره لَهُ ويتركون حَدِيثه نَفسه عَمَّن
لَيْسَ هُوَ مَعَه بِهَذِهِ الْمنزلَة "([17]).
رواية الراوي
عن أهل بلده
ومما لا يخفى أن الراوي أعلم بحديث شيوخه في بلده، فإذا صار الخلاف
على مالك قدمت رواية أهل المدينة، وإذا اختلف على قتادة قدمت رواية البصريين، وإذا
اختلف عن الاعمش وأبي إسحاق قدم رواية أهل الكوفة وهكذا مالم ترد قرينة تصرف هذه
الثوابت، روى الخطيب عن حماد بن زید قال: "وَكَانَ يَقُولُ: أَهْلُ بَلَدِ
الرَّجُلِ أَعْرَفُ بِالرَّجُلِ "قَالَ الْخَطِيبُ: لَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ
زِيَادَةُ عِلْمٍ بخَبَرِهِ، عَلَى مَا عَلِمَهُ الْغَرِيبُ مِنْ ظَاهِرِ
عَدَالَتِهِ, جَعَلَ حَمَّادٌ الْحُكْمَ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ جَرْحِهِ, دُونَ مَا
أَخْبَرَ بِهِ الْغَرِيبُ مِنْ عَدَالَتِهِ"([18])، وقال أبو حاتم في صالح : "أحبُّ إليَّ من عقيل لأنه حجازيٌّ"([19])، قدمه في الزُّهريِّ وهو مدني، ومنه أيضاً كلام ابن القيم السابق.
رواية الراوي
عن أهل بيته وأنه أعلم بهم غالباً
وهي من القرائن الهامة، فإذا روى الراوي عن أهل بيته وخالفه آخرون
قُدمت روايته في الترجيح، وذلك لان من يروي عن أهل بيته يكون أعلم بهم من غيرهم،
ومن شواهده قول ابن حجر - عن حديث: "لا نكاح إلا بولي"([20]): "الاستدلال بأن الحكم للواصل دائماً على العموم
من صنيع البخاريِّ في هذا الحديث الخاص ليس بمستقيم، لأنَّ البخاريَّ لم يحكم فيه
بالاتصال من أجل كون الوصل زيادة، وإنَّما حكم له بالاتصال لمعانٍ أخرى رجحت عنده
حكم الموصول. منها أنَّ يونس بن أبي إسحاق وابنيه إسرائيل وعيسى رووه عن أبي إسحاق
موصولاً، ولا شكَّ أن آل الرَّجل أخص به من غيرهم"([21]).
وقال ابن حجر أيضاً مبيِّناً سبب تخريج
البخاريِّ لرواية معلَّة: "وترجَّح ذلك عنده بقرينة، كونها تختصُّ بأبيه
فدواعيه متوفِّرة على حملها عنه"([22]).
وهذه من أشهر القرائن التي اعتمدها المتقدمون في تعليل الأحاديث
وكشفهم للعلة عن طريقها إلا أنَّ هناك قرائن أخرى اذكرها للفائدة دون التفصيل
للإيجاز والاختصار منها:
الرواية بالمعنى وحكمها
ومعنى
ذلك: أن
يحدث الراوي بالحديث بلفظ غير اللفظ المروي به.
حكمها
رواية الحديث بالمعنى اختلف فيها الصحابة
والتابعين ومن بعدهم إلى قولين:
القول
الأول: منع الرواية بالمعنى: فـ ابن عمر رضي الله عنه
وأرضاه كان أشد الناس في تحريم رواية الحديث بالمعنى، حتى أنه إذا غير بعض الرواة
لفظاً واحداً في الحديث قال: "وَيْلَكُمْ لَا تَكْذِبُوا عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"([23]).
قال
سليمان بن مهران الأعمش: " كَانَ هَذَا الْعِلْمُ
عِنْدَ أَقْوَامٍ كَانَ أَحَدُهُمْ لَأَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ
إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ وَاوًا أَوْ أَلِفًا أَوْ دَالًا"([24])، بمعنى: أنَّهم كانوا يتشددون في مراعاة ضبط الالفاظ وينقلونها كما سمعوها.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نَضَّرَ
اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ..."([25])، يقول ابن الاثير: "نَضَرَهُ
وَنَضَّرَهُ وَأَنْضَرَهُ: أَيْ نَعَّمَهُ، وَيُرْوَى بِالتَّخْفِيفِ
وَالتَّشْدِيدِ مِنَ النَّضَارَةِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ: حُسْنُ الْوَجْهِ،
وَالْبَرِيقُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ حَسَّنَ خُلُقَهُ وَقَدْرَهُ"([26]).
ويستدلون بحديث أصرح وأوضح من ذلك وهو حديث البراء في دعاء النوم، وهو:
"اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ،
وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا
مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي
أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ،
فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ".
قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا بَلَغْتُ: " اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ،
قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ"([27]).
نلاحظ أنَّه لمَّا سمعه البراء بن عازب عرضه على النبي -صلى الله عليه وسلم-
وقال: "آمنت بكتابك الذي أنزلت، ورسولك الذي أرسلت"، فقال له النبي -صلى
الله عليه وسلم-: "لا، ونبيك الذي أرسلت"، فصحح له ما قاله، مع أن
الرسول نبي وزيادة، فهو رواه بالمعنى، ومع ذلك فالنبي -صلى الله عليه وسلم- رد
عليه وقال: "لا، وبنبيك الذي أرسلت"، وهذه دلالة قوية جداً عن النبي -ْصلى
الله عليه وسلم- في رفض الرواية بالمعنى، ولا بد أن يأتي باللفظ الذي سمعوه طبقاً.
القول الثاني: -وهو قول جهور
أهل العلم من الصحابة والتابعين- في جواز رواية الحديث بالمعنى، وهذا الذي رجحه
البخاري وقبله شيخه علي بن المديني.
ويحتجون على ذلك بأدلة منها: حديث أبي سعيد قال: " قَالَ: "كُنَّا نَجْلِسُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَسَى أَنْ نَكُونَ عَشْرَةَ نَفَرٍ نَسْمَعُ
الْحَدِيثَ، فَمَا مِنَّا اثْنَانِ يُؤَدِّيَانِهِ عَلَى حَرْفٍ، غَيْرَ أَنَّ
الْمَعْنَى وَاحِدٌ"([28]). وهذا فيه دلالة وبيان أن الصحابة كانوا يحفظون الحديث
وكل منهم يؤدي الحديث بالمعنى الذي يراه الأقرب.
ومن تتبع أدلة الفريقين يتضح له جواز رواية الحديث بالمعنى، وذلك أنَّ
الأحاديث المروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتب السنة لم تتفق على الفاظ
الحديث الواحد الا يسير، وهذا فيه دلالة على أنَّهم كانوا يحفظن ويروون الأحاديث
بالمعنى، فقد جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: سَأَلَ
رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّكَ لَتُحَدِّثُنَا حَدِيثًا لَا نَقْدِرُ أَنْ نَسُوقَهُ كَمَا نَسْمَعُهُ،
فَقَالَ: «إِذَا أَصَابَ أَحَدُكُمُ الْمَعْنَى فَلْيُحَدِّثْ"([29]).
وقال الشافعي: " فإذ كان الله لِرَأْفته بخلْقِه أنزل كتابَه على سبْعة
أحْرف، معرفةً منه بأنَّ الحفْظَ قدْ يَزِلُّ، لِيُحِلَّ لهم قراءته وإنْ اختلف
اللفظُ فيه، ما لم يكن في اختلافهم إحالةُ معنى: كان ما سِوَى كتابِ الله أوْلَى
أنْ يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يُحِلْ معْناه"([30]).
ومن الأدلة على أنَّ الصحابة يرون الأحاديث بالمعنى الذي يوصلون به المراد
من حكم وغيره حديث الاعرابي الذي بال في المسجد، كما جاء عند البخاري وغيره من
حديث أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي
الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ
ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا
مُعَسِّرِينَ"([31]).
وقد تتبع أحد
المشايخ الفاظ هذا الحديث ولم تكن متوافقة متطابقة، إنما جاءت بصيغٍ مختلفة لكنها
بنفس المعنى.
فقد جاء في البخاري نفسه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء).
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه ولا
تزرموه، قال: فلما فرغ -يعني فرغ من بوله- دعا بدلو من ماء فصبه عليه).
وفي مسلم أيضاً عن أنس قال: (فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب فصب على بوله).
وأيضاً عن أنس في رواية أخرى في الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم (لا تزرموه دعوه).
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: (فلم يلبث أن بال في ناحية المسجد،
فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم
تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء).
وهذه الجملة لم تذكر أصلاً في رواية من روايات الصحيح، وهذا يدل على أن
الحديث روي بالمعنى.
وفي رواية قال: (صبوا عليه ذنوباً من ماء).
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهريقوا
عليه سجلاً من ماء أو دلواً من ماء).
وفي سنن النسائي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه ولا
تزرموه، فلما فرغ دعا بدلوٍ فصبه عليه) وفي النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (دعوه وأهريقوا على بوله دلواً من ماء؛ فإنما بعثتم
ميسرين).
وفيه أيضاً عن أنس: (اتركوه، فتركوه حتى بال ثم أمر بدلو من ماء).
وفي سنن ابن ماجة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، ثم دعا بدلو
من ماء فصب عليه).
وأيضاً في سنن ابن ماجة عن واثلة بن الأسقع -وهو راو ثالث- قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه، ثم دعا بسجل من ماء فصب عليه).
فهذه الروايات في الكتب الستة فقط، فلا توجد رواية اتفقت مع رواية أخرى
بنفس اللفظ، فالصحابة كل واحد منهم سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعقل عنه،
وكانت اللغة عندهم سليقة، وكانوا فقهاء، وتتوفر فيهم الشروط التي أشترطها العلماء
في الرواية بالمعنى وهي:
أن يكون عالماً باللغة العربية.
وأن يكون فقيهاً؛ حتى لا يغير الأحكام.
وأن يستوعب مضمون الحديث كله، ولا يحيل المعنى ولا الحكم.
ومن أمثلة الرواية بالمعنى أيضاً ما رواه هشيم بن بشير عن الزهري
حديث: «لا يتوارث أهل ملتين"([32])، فقد رواه كل أصحاب الزهري عنه بلفظ: "لا يرث المسلم الكافر، ولا
الكافر المسلم"([33])، قال أحمد: "لم يسمع هشيم من الزهري حديث علي بن حسين عن عمرو
بن عثمان عن أسامة بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يتوارث أهل
ملتين شتی"، قال أبي: وقد حدثنا به هشیم"([34]))
اختلاف المجلس
كأن يروي في مجلس رواية موقوفة ثم يرفعها في مجلس آخر أو
العكس، يقول الدكتور ماهر الفحل: "المقصود
بذلك أنْ يروي المحدث حديثاً ما، في مكان ما، ثم يرويه مرة أخرى مخالفاً روايته
الأولى، إما بإرسال موصول أو رفع موقوف أو غير ذلك، ومن الشواهد عليه ما قاله
الترمذي: [ورواية هؤلاء الذين رووا عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: [لا نكاحَ إلا بوليٍّ] عندي أصح؛ لأنَّ سماعهم من
أبي إسحاق في أوقات مختلفة، وإن كان شعبة والثوري أحفظ وأثبت من جميع هؤلاء الذين
رووا عن أبي إسحاق هذا الحديث، فإنَّ رواية هؤلاء عندي أشبه؛ لأنَّ شعبة والثوري
سمعا هذا الحديث من أبي إسحاق في مجلس واحد]"([35])
وكذلك من القرائن شذوذ السند، وفقدان الحديث من كتب الراوي، مخالفة
الراوي لما روى، التفرد، غرابة المتن، اختلاف ألفاظ الروايتين، اضطراب إحدى
الروايتين، وغيرها الكثير مما ذكره الأستاذ عادل
عبد الشكور في كتابه قواعد العلل، وغيرها، وإنَّما اختصرت منها خشية الاطالة وذهاب
المقصد من البحث.
وقد عقد الخطيب في -الكفاية- باباً بعنوان: -القول في ترجيح الأخبار-
يقول فيه: "ذكر فيه مرجحات للأخبار منها:
- أن يكون أحد الخبرين مروياً في تضاعيف قصة مشهورة عند أهل النقل؛
لأنَّ ما يرويه الواحد مع غيره، أقرب مما يرويه الواحد عارياً عن قصة مشهورة
- أن يقول راويه سمعت فلاناً، ويقول الآخر: كتب إليَّ فلان.
- أن يكون أحدهما منسوباً إلى -النبي صلى الله عليه وسلم-، والآخر
مختلفاً فيه فيروی تارة مرفوعاً وأخری موقوفاً.
- أن يكون أحدهما قد اختلف النقلة على راويه، فمنهم من يروي عنه
الحديث في حكم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من يرويه عنه في نفي ذلك
الحكم، والآخر لم تختلف نقلته في أنَّه روى أحدهما.
- أن يكون راوي الخبر هو صاحب القصة، والآخر ليس كذلك.
- أن يوافق مسند المحدث مرسل غيره من الثقات.
- أن يطابق أحد المتعارضين عمل الأمة.
- أن يكون أحد الخبرين بياناً للحكم، والآخر ليس كذلك.
- أن يكون رواته فقهاء؛ لأن عناية الفقيه بما يتعلق من الأحكام أشد
من عناية
غیره بذلك"([36]).
ولعلي اكتفي بهذا القدر بعد أنْ اتضح المراد وحققنا المطلوب، وكل ما
كتبنا فيه من البحوث فيه من الكلام الكثير والنقول عن أهل العلم الأكثر، بل ويصلح
كل منها أن ينفرد کتاب مستقل بنفسه لكثرة ما له من الأمثلة والله الموفق وهو
الهادي للرشاد.
هذا وما كان من توفيق فمن الله تعالى وحده، وما كان من نقص، أو
تقصير، أو نسيان فمن نفسي والله ورسوله منه براء، وصلى اللهم على نبيا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
تم الفراغ منه يوم الاثنين
الموافق
۱۰ / ربيع الأخر 1440 من
هجرة المصطفى
17/12/2018م
([4])
ينظر: تهذيب اللغة: 9/ 89؛ ومقاییس اللغة: 5/ 77؛ ومختار الصحاح: 252، والموسوعة
الفقهية الكويتية:14/7 (3).
([20]) أخرجه
الطيالسي في "مسنده": 1/ 422 (525)، وعبد الرزاق في "مصنفه": 6/ 196 (10475)، وسعيد بن منصور في "سننه": 6/ 174 (527)، وابن أبي شيبة في "مصنفه": 9/ 38 (16186)، وأحمد في "مسنده": 2/ 721 (3046)، والدارمي في "مسنده": 3/
1396 (2228)، وابن ماجه في "سننه": 3/ 79 (1881)، وأبو داود في "سننه": 2/ 191 (2085)، والترمذي في "جامعه": 2/ 392 (1101)، والبزار في "مسنده": 8/ 106 (3105).
([25]) أخرجه
الحميدي في "مسنده": 1/ 200 (88)، وأحمد في "مسنده": 2/ 962
(4240)، وابن ماجه في "سننه": 1/ 157 (232)، والترمذي في
"جامعه": 4/ 394 (2657)، والبزار في "مسنده": 5/ 382 (2014)،
وأبو يعلى في "مسنده": 9/ 62
(5126)، وابن حبان في "صحيحه":
1/ 268 (66)، والطبراني في "الأوسط": 2/ 78 (1304).
([31]) أخرجه
البخاري في "صحيحه": 1/ 54 (220)، وابن الجارود في "المنتقى":
1/ 58 (158)، وابن خزيمة في
"صحيحه": 1/ 397 (297)، وابن حبان في "صحيحه": 3/ 265 (985)، والنسائي في "الكبرى": 1/ 92 (54)، وأبو داود في "سننه": 1/ 145 (380)، والترمذي في "جامعه": 1/ 192 (147)، وابن ماجه في "سننه": 1/ 332 (529)، والبيهقي في "سننه الكبير": 2/ 428 (4306)،
وأحمد في "مسنده": 3/ 1533
(7375)، والحميدي في "مسنده":
2/ 178 (967)، وأبو يعلى في
"مسنده": 10/ 278 (5876)، والبزار في "مسنده" 14/ 150 (7679)، وابن
أبي شيبة في "مصنفه": 2/ 287 (2044).
([32])
أخرجه سعید بن منصور في "سننه": (۱۳۷) وأحمد في
"مسنده": (۱۷۷۵)،
وابن ماجه في "سننه": (۲۷۳۱) وأبو داود في "سننه":
(۲۹۱۱) والنسائي
في "الكبرى": (۱۳۵۰)، وابن الجارود في
"المتقي": (۱۰۰) والطبراني
في "الأوسط": (۱۳۲۳) والدارقطني في "سننه":
(4074)، والبيهقي في "سننه الكبير": (۱۲۳۵۷) من طريق عمرو
بن شعيب، عن أبيه، عن جده به.
([33]) أخرجه مالك في "الموطأ": (4۹۲/۱۸۹۱)، والطيالسي
في "مسنده": (665)، وعبد الرزاق في "مصنفه": (۹۸۵۱)، والحميدي
في "مسنده": (۵۵۱)،
وسعيد بن منصور في "سننه": (۱۳۵)، وابن أبي
شيبة في "مصنفة": (۰۸۸ ۳۲)، وأحمد في "مسنده": (۲۲۱۹۱)، والدارمي
في "مسنده": (۳۰41)
(۳۰۶۳)،
والبخاري في "صحيحه": (۲۸۲)، (6764)، ومسلم في
"صحيحه": (1614) من طريق ابْنِ شِهَابٍ الزهري، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
حُسَيْنٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ به.
إرسال تعليق