فَلَنْ يُضَيِّعَنَا اللَّهُ
نَبْرَةُ يَقِينٍ فِي
صَمْتِ الْوَادِي
بسم الله الرحمن والرحيم
في صحراء قاحلةٍ لا ظلّ فيها ولا ماء، ولا أنيس
فيها ولا رجاء، وقفت هاجرُ عليها السلام، تُناظرُ الغيابَ بعينٍ دامعة، وتنظرُ إلى
صغيرها بإشفاق الأم الموجوعة. قلبها بين صاعقة الفقد، وسكينة الوعد.
فـ «لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج
بإسماعيلَ وأم إسماعيلَ، ومعهم شَنَّةٌ فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشَّنَّةِ،
فيدر لبنها على صبيها، حتى قَدِمَ مكة فوضعها تحت دَوْحَةٍ، ثم رجع إبراهيم إلى أهله،
فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إسماعيلَ، حتى لما بلغوا كَدَاءً نادته من ورائه: يا إبراهيم
إلى من تَتْرُكُنَا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله»([1]).
الله أمرك بهذا؟!
سؤالٌ خرج من أعماق اليقين لا من قاع الشك، سؤالٌ
يبحث عن الله لا عن الطريق، عن الحكمة لا عن الأسباب.
فقال الخليل: "نعم".
فلم ترتجف، لم تعاتب، لم تصرخ، بل أجابت بإيمانٍ
يسكبُ الطمأنينة في الجبال:
"رَضِيتُ بِاللَّهِ"
إذاً فَلَنْ يُضَيِّعَنَا اللَّهُ
ما أعظمكِ يا هاجر! ما أصدق يقينكِ!
ما أروع ذلك الإيمان الذي لا يُسقى من ماءٍ ولا
يُغذّى من زاد، بل يَنبُتُ في الأرضِ الجرداء، ويُورقُ في قلوبِ الصالحين
الأتقياء.
فَلَنْ يُضَيِّعَنَا اللَّهُ، عبارة ليست حروفًا بل حياة، ليست كلمة بل عهدٌ،
ليست همسًا بل وعدٌ في ليلٍ دامسٍ تُشعلُ به قناديل الرجاء.
أيها الحائر: ما ضيّع الله عبدًا أقبل عليه، ولا نسي مهمومًا
ناداه، ولا خذل مكروبًا بكى بين يديه، هو الجابر لكل كسير، والقريب من كل فقير، هو
من قال لعباده: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
السُّوءَ﴾([2])، فهل يجيب ثم يُخيب؟ وهل يُعطي ثم يُبيد؟!
اعلم: أن من ظنَّ بالله خيرًا، نال الخير بعد العوز، ومن
وثق بوعده، رأى الفرج بعد الكرب، ومن تيقن أن الله لا يخذل، عاينَ النور من بين
ظلمات الألم.
فيا قلب المهموم، لا تلتفت إلى جفاف الطريق، ولا إلى جفاء الخلق،
فربّ الطريق معك، وربّ الخلق يرعاك.
ويا من أثقلتك الديون، وأرهقتك الأحزان، وضيّق
عليك الزمان، لا تيأس، لن يضيعك الله.
ويا من تكسّر قلبك من خذلان البشر، وجفّ ماؤك من
ندرة الوفاء، تذكّر:
أنّ هاجر قالتها في وادٍ غير ذي زرع، ومعها طفلٌ
يبكي ولبنٌ قد جفّ، فما ضاعت، بل فُجِّر لها زمزم من جوف الأرض.
فكيف تضيع وأنت تقول: يا الله؟
كيف تندثر وأنت تتوضأ من دمع الرجاء؟
كيف تُخذل وربُّك يقول: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾؟
فَلَنْ يُضَيِّعَنَا اللَّهُ:
إنها ليست مقولة عابرة، إنها عقيدة راسخة.
إنها ليست صوتًا من أمٍ باكية، بل نورٌ من قلبٍ
موصولٍ بالسماء.
إنها توقيع الأمل في دفتر الألم، ومفتاح الفرج
حين تُغلق الأبواب.
فلا تيأس، ولا تنكسر، ولا تلتفت... وارفع رأسك
إلى السماء، وقل كما قالت هاجر:
إذاً، فلن يُضَيِّعَنَا الله.
وكتبه
راجي عفو ربه الحميد يوسف طه السعيد
غفر الله له ولوالديه
14/07 / 2025 م - 19 محرم ١٤٤٧ هـ
إرسال تعليق