حينَ تَسقُطُ القِيَمُ، وتُباعُ الذِّمَمُ
وقفة عتاب لحماس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ وبعد: في العاشرِ من رمضانَ، من السنةِ الثامنةِ
للهجرةِ، توجَّهَ جيشُ الإسلامِ، وعددُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، إلى مكَّةَ
المكرَّمةِ، حيثُ دخَلَها رسولُ اللهِ ﷺ فاتحًا، في صورةٍ من التواضُعِ تُدهِشُ
القلوبَ وتُبكِي العيونَ. إذ كان يركبُ ناقتهُ القَصواءَ، وقد حنَى رأسَهُ على
رَحلِها تواضُعًا للهِ ﷻ، في مشهدٍ لم تُؤثَرْ عنه ﷺ مثيلتُهُ في فتوحِ الفاتحينَ،
مع كثرةِ ما ظَفِرَ بهِ من انتصاراتٍ وأمجادٍ.
ما اغترَّ قطُّ بنصرٍ، ولا نسبَهُ إلى نفسِه، بل زادَهُ كلُّ
فَتحٍ للهِ خُشوعًا، وازدادَ بهِ للهِ انكسارًا، وهو يتلو سورةَ الفتحِ، مستشعرًا
المِنَّةَ الربانيةَ بفتحٍ مبينٍ، ومغفرةٍ للذنبِ من الرحيم، ونصرٍ عزيزٍ من القويِّ
المتينِ.
إنَّه ﷺ وهو يدخلُ مكَّةَ، يستحضرُ مشاهدَ الهجرةِ والألمِ
والخذلانِ، كيف خرج منها مُطارَدًا، واليومَ يعودُ إليها منصورًا مؤيَّدًا؟ أيُّ
كرامةٍ تلك التي أكرمَهُ اللهُ بها؟! وأيُّ فضلٍ ذاك الذي أحاطَهُ من كلِّ جانبٍ؟!
وكلَّما تذكَّرَ تلك المحنَ، تواضعَ للهِ أكثرَ، وانحنى قلبُهُ
قبلَ جبهتِه، وتفتَّحَت ينابيعُ الحياءِ في صدرِه الطاهرِ ﷺ.
لا يخفى على ذي لُبٍّ حصيفٍ أنَّ العالَمَ بأسرِه، قد بكى -أو
تباكَى- على جراحِ غزَّةَ في مأساتِها قبل الأخيرةِ، حتى من كان من غيرِ ملَّتِنا،
بل من عدوِّنا نفسهِ، رأينا فيهم مَن أظهرَ تعاطُفًا، وتألَّمَ لمشاهدِ الدمارِ
والقتلِ والتشريدِ.
لقد تحرَّكَت مشاعرُ الأحياءِ على وجهِ الأرضِ، واشتعلتِ
القلوبُ بالدعاءِ والنصرةِ، فكانت غزَّةُ قضيَّةَ كلِّ حرٍّ، ونكبتُها أدمَعَت
العيونَ، وحرَّكَت السُّكونَ، حتى توقَّفَت الحربُ، ففرِحَ الناسُ، وارتاحَت بعضُ
الأنفاسِ، إلَّا أنَّها لم تلبثْ أن اختنقت مرَّةً أخرى، حين خرجَت إلينا وجوهٌ،
باسمِ النُّصحِ، ولكن بلسانٍ مكسورٍ، وقلبٍ مشبوهٍ، يطبِّلونَ لمَن كان سببَ
الجراحِ، ويُثنونَ على مَن قتلَ الأطفالَ، ورمَّلَ النساءَ، ودمَّرَ البُنى
والأحياءَ.
خرجَ علينا بعضُ المنتسبينَ إلى "حماسٍ" من تنظيمهم
فرع الخارجِ، وممن ينطبقُ عليهم المثلُ الدارجُ: "اسمهُ بالحَصادِ ومنجَلُه
مكسورٌ". وهم يثنونَ على الظالمينَ القاتلينَ، ويُقدِّمونَ الشكرَ لمَن سفكَ
الدماءَ وانتهكَ الأعراضَ، وتناسى أولئكَ ـ أو تناسوا ـ أنّ هناكَ من لا تزالُ
نساؤُهُ وأطفالُهُ في سُجونِهم، وفي مخيَّماتِهم، يُساوَمونَ على الشرفِ من أجلِ
لقمةِ عيشٍ تسدُّ الرمقَ.
أيُّ قلبٍ هذا؟! وأيُّ دينٍ ذاك؟! وأيُّ سياسةٍ عمياءَ تُجيزُ
لكَ أن تَمتدَحَ قاتلَ إخوانِكَ؟!
أيعقل جهلك من تثني عليه أشدُّ وطأةً علينا من يهودَ أنفسِهم،
لا لشيءٍ، إلا لأنهم سفكوا دماءَنا باسمِ المقاومةِ، وباعوا وانتهكوا أعراضَنا
باسمِ التحريرِ، ونهبوا أموالَنا باسمِ الإعمارِ، ثم أعادوا توزيعَها لمن
يمدحونَهم ويبايعونَهم على الخيانةِ!
نحن ـ من البدايةِ ـ قلنا، ونقولُ، وسنقولُ ما بقِيَ فينا قلبٌ
يخفقُ:
لسنا مع حماس ولا سواها من الجماعات والفِرق، إلا في بابٍ
واحدٍ فقط: [دفعُ العدوِّ الصائلِ]، وما عدا ذلكَ فهم في نظرِ العقلاءِ كغيرِهم من
حكَّامِ عصرِنا، لا يقدِّمونَ مصلحةً شرعيةً، ولا يَرقُبونَ في مؤمنٍ إلًّا ولا
ذِمَّةً، إذ المصلحةُ الحزبيةُ والتبعيَّةُ العمياءُ عندهم فوق كلِّ اعتبارٍ.
كما أننا نعلمُ ـ علمَ اليقينِ ـ أن دمَ المسلمِ دمٌ واحدٌ،
وعدوَّهُ واحدٌ، وإن تستَّر بألفِ اسمٍ ورايةٍ.
فإن كنتَ ترى مديحَ قاتلِ المسلمينَ من بابِ
"السياسةِ"، فاعلم أنَّنا نكفُرُ بهذه السياسةِ، كما نكفُرُ بكلِّ
طاغوتٍ عُبِدَ من دونِ اللهِ ﷻ.
الأموالُ التي نُهِبَتْ من المسلمينَ ورُدَّتْ إليكم ليست أغلى
من دماءِ إخوانِكم، ولا من أعراضِهم، ولا من مشاعرِ أمهاتٍ قُتِل أبناؤُهنَّ،
وزوجاتٍ تُرِملْن، وأطفالٍ تيتَّموا، وعوائلَ شُرِّدتْ. وما تنعمونَ به اليومَ من
أموالِهم وأراضيهم المنهوبةِ هو سُحتٌ محرَّمٌ، تأكلونَهُ وأنتم تضحكون، والساكتُ
على الجريمةِ شريكٌ، والراضي بها فاعلٌ، والفاعلُ مؤاخذٌ عند اللهِ، إن لم يتبْ
ويُراجعْ.
فإلى ذاكَ القائدِ الحمساويِّ، أقولُها بملءِ الفمِ:
كنا وما نزالُ نُقدِّمُ الدمَ، ونبذُلُ الروحَ، ونبكي
الشهداءَ، ونُصلِّي شغفاً بالدعاء لأهلِنا في فلسطينَ، ونقفُ صفًّا واحدًا ضدَّ
عدوِّها، لكن لا تلُمنا إن رفضنا سياساتِكُم المهادِنَةَ، ومواقفَكُم المتقلِّبةَ،
وإنَّ ثناءَكم على من قتلَ أهلَنا، هو خنجرٌ مسمومٌ في صدورِنا، وطعنةٌ في
خواصرِنا، وسهمٌ يفتكُ بأكبادِنا.
إن لم تَستحيُوا من اللهِ، فاستحيُوا من دماءِ إخوانِكم، ومن
دعاءِ ملايين المسلمينَ الذين لَجَؤوا إلى اللهِ بالنُّصرةِ لكم، ثم رأوا منكم
خذلانًا وبيعًا بلا ثمنٍ.
واعلموا أنَّ من تنكَّرتُم لتضحياتِهم، لا يزالونَ مشروعَ
فداءٍ لهذه الأمَّةِ، لا يرجونَ منكم جزاءً ولا شكورًا، بل يرجونَ أن يرضى اللهُ
عنهم، وأن يُطهِّرَ الأرضَ من كلِّ معتدٍ أثيمٍ.
ومن استنصرَ بغيرِ اللهِ ذلَّ، ومن باعَ نفسَهُ للطُّغاةِ فسدَ، ومن باعَ مشاعرَ أمَّتِه فقد باعَ آخرتَه بثمنٍ بخسٍ.
اللَّهُمَّ يا هادِيَ الحائرين، ومُرشدَ
الضالِّين، نسألُكَ أن تَرُدَّ قادةَ حماسٍ ورجالاتها إلى الحضنِ الإسلاميِّ
السُّنِّيِّ ردًّا جَميلًا، وأن تُطهِّرَ قلوبَهم من دَنسِ التبعيَّةِ لأهلِ
البِدعِ والرَّفضِ، وأن تَصرفَ عنهم مكرَ الفُرسِ وعمائمَ السُّوءِ، وتجمعَ
كلمتَهم على الحقِّ، وتَجعلَ رايتَهم خفَّاقةً تحتَ لواءِ التوحيد أهلِ السُّنَّةِ
والجماعةِ.
اللَّهُمَّ اجعلهم مفاتيحَ للخيرِ، مغاليقَ للشرِّ، وادفعْ عنهم وعنَّا عادِيَةَ عدوِّنا وعدوِّهم، وانصرْ بهم دينَك، وأعلِ بهم كلمتَك، واهدِهم لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ.
اللَّهُمَّ آمين.
وكتبهُ
يوسف طه السعيد
إرسال تعليق